الصمت الأمومي هو حالة من الكشف المضيء، وهي لحظة مقدسة، ربما ذات بعد نصف ديني، وفيها يتمكن الشاعر من أن يحس بوجوده المشارك في الكون؛ فيستطيع لمس الأشياء من حوله.
الشعر يتيم الصمت.. شعرية تشارلز سيميك
تأليف: جوران ميجوك*
ترجمة: يونان سعد
الترجمة عن كتاب «يتيم الصمت: شعرية تشارلز سيميك» لجوران ميجوك، دار نشر جامعة فريبورج بسويسرا*
*جوران ميجوك أستاذ الأدب بكلية الآداب جامعة فريبورج بسويسرا، وكان قد نال رسالة الدكتوراه عن هذا المؤلف عن شعرية تشارلز سيميك، وهو بالكامل تأمل نقدي للأسس الفكرية والشعورية التي بنى عليها شاعر أمريكا الكبير شعريته، وتأتي أهمية الكتاب من تأمل مفهوم سيميك عن الشعر -حيث إن الشعر هو أحد أكثر الأشياء العصية على المفهمة والتعريف- وعلى أساس أن مفهوم الشعرية لدى كل شاعر هو الذي ينتج عنه شعريته ذاتها ومشروعه الشعري كله.
في مقابلة له مع جريدة (كريزي هورس) الأدبية في صيف عام 1972 وبعد خمس سنوات من نشر مجموعته الشعرية الأولى «ما يقوله العشب»، وصف تشارلز سيميك الشعر باعتباره: يتيم الصمت.
الصمت أم العزلة؟ أيهما أكثر ضرورة للحالة الإنسانية؟
يرد سيميك: الصمت الأمومي (صمت الرحم الأكبر)[1]، هكذا أحب أن أسميه، الحياة قبل ظهور اللغة، إنه المكان الذي نبدأ فيه بسماع أصوات الجمادات، الشعر لذلك هو ابن الصمت ويتيمه، حيث لا تتساوى الكلمات أبدًا مع مخزون الخبرة الذي يختبئ خلفها.
في مقالة أخرى نُشرت عام 1984 بعنوان «بعض الأفكار عن السطر الشعري» يمنحنا سيميك توضيحًا أبعد لفكرته عن الشعر، وبتعبيرات أكثر كثافة يخبرنا سيميك عن مدى صعوبة وصف هذه (الخبرة الإنسانية).
يقول:
«في كتاب (التكوين) الخاص بي، يكون الشعر هو يتيم الصمت، الصمت الأمومي، هو هذا الكيان الذي يتواجد بذاته في كل واحد فينا، وينتمي في الوقت ذاته للكون بأكمله، صوت الأم الذي ينادي باسمه من على أسطح العالم، ومن يستمع إلى هذا الصوت سيلتفت بكيانه كله إلى منزل أسلافه، وتلك اللحظة المقدسة هي بعينها وجود، وجود خارج الزمن وبلا لغة، وحين يشعر الإنسان بهذا الوجود لا يعد بحاجة إلى الكلام الكثير، الشعر الكلامي إذن هو مجرد ذاكرة للحظة الكشف هذه، نداءٌ على الكلمات التي بإمكانها أن تتساوى مع كثافة تلك الخبرة، عملٌ لا يقل في وهميته ومجازيته عن صناعة حجر الفلاسفة؛ فتصبح حالة الكلمات بهذه الطريقة إيمانًا بالمستحيل».
لتحليل تركيبة «يتيم الصمت» التي أوردها سيميك؛ فإنه يتعين علينا الاقتراب أكثر من التركيبة الأخرى «الصمت الأمومي»، ذلك باعتبارها النقطة الأولى التي ينطلق منها مشروع سيميك الشعري، وفي كلا التركيبتين يستخدم سيميك عددًا من المجازات الشعرية ليصف لنا ما الذي يعنيه من وراء استخدامه لمفهوم «الصمت الأمومي».
في كلا النصين، يستخدم سيميك مرادفة (الصوت) ليشرح لنا مفهومه عن تلك الفكرة، ويبدو أن الصمت الأمومي ذاك يمتلك صوتًا ما، وتتجلى وظيفة الشاعر في أن يوجه انتباهه لسماع ذلك الصوت، سيميك نفسه يتتبع هذا الصوت (من يستمع إليه سيلتفت بكيانه إلى منزل أسلافه) وفكرة الالتفات لمنزل الأسلاف تنطوي في داخلها على معنى أن الشاعر يعيش خارج وطنه، بمعنى أنه يعيش حالة من الاغتراب وافتقاد الألفة خارج هذا الوطن، وذاك الوطن هو بعينه «الصمت الأمومي».
في مقابلته سالفة الذكر مع جريدة (كريزي هورس) عام 1972، يشرح سيميك (الصمت الأمومي) باعتباره الكيان الذي يتمكن الإنسان فيه من سماع أصوات الجمادات، وبوضع هاتين اللحظتين إلى جوار بعضهما البعض حيث يستخدم سيميك تعبير (الصوت)؛ يمكننا المحاججة على أن هذا الصوت هو بعينه ما يمكِّن الشاعر من تأسيس الصلة مع العالم، أي العالم الخارجي الذي فقدنا الاتصال به، إنه العودة الميتافيزيقية للوطن، تلك التي تمكن الشاعر من العودة مجددًا للاتصال بعالم الجمادات، الصمت الأمومي هو ما يمكن الشاعر من سماع وفهم العالم، وهي الفكرة التي ربما يعضدها استخدام سيميك للفظة (الكون)، حيث يقدم (الصمت الأمومي) باعتباره ما هو موجود فينا وينتمي للكون كله في نفس اللحظة، في الصمت الأمومي ذاك يستعيد الشاعر نفسه كجزء من العالم، ومن هنا يفتح هذا الصمت بوابة على العالم الخارجي كنا في حالة من العماء عنها.
ما تفعله تلك الخبرة هو أنها تذيب الثنائيات المعهودة من قبيل العقل والعالم أو الوعي والواقع، هذا باعتبارها الخبرة الميتافيزيقية التي تعيد الشاعر إلى وطنه مرة أخرى، أي إلى العالم. هنالك، يستطيع أن يستعيد الشعور الذي فقده من قبل، شعور الوحدة مع الكل، الصمت الأمومي هو حالة من الكشف المضيء، وهي لحظة مقدسة، ربما ذات بعد نصف ديني، وفيها يتمكن الشاعر من أن يحس بوجوده المشارك في الكون؛ فيستطيع لمس الأشياء من حوله.
الصمت الأمومي هو أيضًا خبرة بلا لغة، إنه اللحظة التي على الرغم من امتلاكها الصوت إلا أنها تفتقر للكلام، ولا تمتلك لغةً محددة تظهر من خلالها، إنه اللحظة التي تسبق ظهور اللغة، وهو كذلك (وجود خارج الزمن ليست له لغة)، وهكذا يبدو التعريف الأول ثقيلًا إلى حد بعيد، كما لو كان سيميك نفسه يرغب في محاكاة لغة الكتب المقدسة، وهو بتلك الطريقة يرغب في أن يؤكد على خبرة شخصية ذات علاقة بالصمت الأمومي نفسه، يريد أن يقول: لقد اختبرت في لحظة الصمت الأمومي تلك وحدةً فردوسية مع الكون، هناك حيث يفقد الإنسان شعوره بالزمن، وهذه الكلمات تشير بطريقة أو بأخرى لتلك الخبرة التي اجتازها سيميك والتي بإمكاننا أن نسميها «خبرة خارج العالم» أو حالة من الولوج إلى عالم آخر، لحظة بطبيعتها ستكون مختلفة عن حالاتنا في الحياة العادية -الحالة العادية حيث الزمن يمضي بلا هوادة في سهم واضح للإمام- يمتلك الشاعر في لحظة الصمت الأمومي وعيًا بالأشياء من حوله، وفي تلك اللحظة وحدها يستطيع أن يشعر بتوحده مجددًا مع العالم، ومن ثم ينتابه شعور العودة إلى الوطن.
يأتي مفهوم سيميك عن الصمت الأمومي كإجابة للسؤال الذي طرحه عليه آن آربور ودونه في كتاب «اليقينية غير المؤكدة»، والسؤال هو: ما هي الأرضية الموثوقة التي يمكن للشاعر أن يبدأ منها مشواره مع الشعر؟ كما يذهب سيميك في مقال له معنون باسم «القدرة السلبية وأبناؤها» (1978) إلى الاستعانة بذكر شاعرين كبيرين هما: أندريه بريتون وإزرا باوند، كيف حاول كلٌ منهما أن يتصدى لمهمة الوصول إلى تلك (الأرضية الموثوقة) أو إلى خبرة ما عن العالم تكون على درجة من الموثوقية بحيث يمكن وصفها، يكتب سيميك: «إن الهدف الأسمى لكل شعرية جديدة هو أن تطور مفهومها الخاص عن (المعنى)، فكرتها الخاصة عما يمكن اعتباره موثوقًا».
يحتاج الشاعر تبعًا لذلك إلى نقطة انطلاق يمكنه استخدامها كأساس لرحلة الاستكشاف، أرضية يستطيع أن يبني عليها تصوره عن العالم، أو نافذة يتمكن من خلالها من رؤية هذا العالم، ويمكنها تبعًا لذلك أن تتحول إلى خبرة موثوقة عن العالم، ولا بد لتلك الخبرة أن تتوفر على عدة شروط تخبرنا عنها كلمة (موثوقية)، وهي أن تكون ذات أصل مسلم به أصيلة وذات روابط متينة بالواقع. على الشاعر إذن أن يثق في تلك الخبرة التي سيبني عليها مشروعه الشعري كله، وعلى خبرة (الصمت الأمومي) سيبني سيميك ما يمكن أن نسميه بالأنطولوجيا الجديدة، وهو على قناعة تامة بحاجته الملحة لتلك الخبرة كي تمنحه إحساسًا بالوجود، وفي لحظة الصمت الأمومي تلك يستطيع الشاعر أن يمسك بحقيقة وجودية ما ولو للحظة واحدة، أن يكتسب فهمًا ما للعالم، وابتداءً من تلك النقطة سيستطيع أن يبني تصوره الموثوق لعالمه/عالمنا ذاك.
[1] نظرًا لخصوصية المصطلح الذي تفرد به تشارلز سيميك؛ فقد كان يمكن ترجمته على أكثر من نحو، وربما كانت ترجمته باعتباره (صمت الرحم الأكبر) أكثر تعبيرًا عما يتضمنه المصطلح نفسه، لكن نظرًا لثقله ورغبةً في الالتزام بالنص الإنجليزي للمصطلح فضلت تعبير: الصمت الأمومي كمعادل لتركيبةMaternal Silence.