بجانب «الشجاعة»، و«اختبارات الطيران» إلخ، فإن «المقومات» يدور عن وولف، إنه عرضٌ لحياة كاتبه، وأيضًا، لنكن صريحين، عن صراع الجنوب مع النُخبة الأدبية بنيويورك.
المقومات المطلوبة لتوم وولف
مقال: روبرت مكروم
ترجمة: كريم عبد الخالق
نُشر في الجارديان، مارس 2016
عادة ما تقدم الجرائد والمجلات الدعم الضروري للكتّاب. «المقومات المطلوبة» هو أحد الكتب العظيمة في هذه السلسلة التي كانت ثمرة العلاقة بين الصحافة الخالصة والطموح الأدبي الأقوى. في عام 1972، كلفت مجلة الرولنج ستون مراسلها اللامع بتغطية انطلاق صاروخ أبولو الأخير إلى القمر، وهي واحدة من الأحداث العديدة التي انتهت معها الستينيات.
وصف توم وولف ردة فعله لاحقًا بأنه كانت «مجرد فضول عادي». كان يسأل نفسه عن السبب، السبب الذي يجعل رجلًا «مستعدًا لأن يجلس على قمة لعبة نارية ضخمة كصواريخ ريدستون، وأطلس، وتيتان أو حتى صواريخ ساتورن، وينتظر أن يُشعِلَ أحدهم الفتيل؟»
يقول وولف بمراوغة، إنه قرر «أن أسأل بعض رواد الفضاء لأكتشف السر، وهذا أضعف الإيمان. لذا سألتُ بعضهم في ديسمبر 1972 حين اجتمعوا في رأس كانافيرال ليشهدوا انطلاق المهمة الأخيرة إلى القمر، أبولو 17».
كانت النتيجة هي تقرير صحفي من أربعة أجزاء بعنوان «ندم دفين في الرأس» والتي نُشرت في مجلة الرولنج ستون خلال 1973. رغم ذلك كان هناك امتداد تالٍ «لفضول وولف العادي». كان قد وضعَ يده على «لغز نفسي» يدور حول الحافز الذي جعل الناس يشتركون في تلك التجربة، وحماسه برد فعله على الأمر. كتبَ لاحقًا: «اكتشفتُ سريعًا، أن من بينهم لا يوجد واحد، مهما كان تفتحهم في الحديث عن مواضيع أخرى، يريد أن يجيب على السؤال أو حتى يغوص لثوانٍ في قلب السؤال، وقلب السؤال هو الشجاعة بالطبع».
وإذن، مع حاسته التي لا تخيب في اصطياد قصة جيدة، أمضى وولف بقية السبعينيات في «منطقة غنية ورائعة، إذا عبرنا عن ذلك بنبرة أدبية، فإنها قد ظلت مظلمة كالجزء الأبعد من القمر لأكثر من نصف قرن: منطقة الملاحة الجوية وفي كنف فيالق الضباط الأمريكيين». نتج عن رصد وولف لـ «واحدة من أغرب أنواع الدراما وأكثرها سرية في القرن العشرين»، كتاب بعنوان «المقومات المطلوبة»، وهو أفضل كتبه متعددة الأنواع.
هو تحقيق صحفي ذو مكانة كلاسيكية، «المقومات المطلوبة» هو استعراض لمهارات وولف، مثلما هو كتاب عن زمنه. تحت واجهته الظاهرة، كان أيضًا كما وصفه مايكل لويس ببراعة في بورتريه نشره في مجلة «فانيتي فير»، إنه في الأساس عن وولف. حيث كتب لويس: «كان وولف مهتمًا بعملية الهبوط على القمر، لكنه اهتم بالمهمة بدرجة أقل من اهتمامه بأصحابها. لاحظ وولف أن لرواد الفضاء الأوائل صفات مشتركة. غالبًا ما يكونون أكبر الأبناء، من مواليد عشرينيات القرن الماضي، يحملون نفس اسم الأب، من مدينة صغيرة، ومن عائلة أنجلوسكسونية بروتستانتية غير مختلطة. يحمل أكثر من نصفهم لقب (الابن) في نهاية أسمائهم. بمعنى آخر، كانوا مثله تمامًا. كان يتساءل مع نفسه، ما شكل التربية التي أخرجت أناسًا كهؤلاء؟ كانت طريقة أخرى لطرح هذا السؤال: ما العملية الاجتماعية الغريبة التي يمكن أن تعبّر عني؟»
ولهذا، بجانب «الشجاعة»، و«اختبارات الطيران» إلخ، فإن «المقومات» يدور عن وولف، إنه عرضٌ لحياة كاتبه، وأيضًا، لنكن صريحين، عن صراع الجنوب مع النُخبة الأدبية بنيويورك. كان توماس وولف الابن، المولود عام 1931، والذي شب في مدينة ريتشموند بولاية فيرجينيا، يكن احترامًا «لهؤلاء الشباب المغامرين الذين يسعون نحو المجد في الحرب» وأيضًا هؤلاء الذين أصبحوا طيارين مقاتلين، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية. حين كان مراسلًا شابًا في منهاتن الستينيات، أدرك أنه غريب. مع تأمل سجلات تضحيات وبطولات هؤلاء الطيارين، و«دراما وسيكولوجيا قيادة طائرات عالية الأداء خلال المعركة»، لاحظَ وولف، ببعض الفزع، أن «العالم الأدبي ظل غافلًا عنهم».
في رأيي، «المقومات المطلوبة» ضربة ثلاثية وجولة مكتملة. إنه استكشاف الشجاعة وتأمل الكاتب لخلفيته، مثلما هو توبيخ مشفر لنُخبة منهاتن، الذين، في كنف ولائهم التام لقيم مجلة النيويوركر (التي يكرهها وولف أكثر من أي شيء آخر) وأيضًا مجلة بارتيزيان ريفيو، كانوا يعتبرون رجال الجيش «وحشيين وتافهين». في هذه الأثناء، كانت حرب فيتنام في أوجها، لم يكن هناك تقدم إيجابي وكان ضباط البحرية يموتون. كانت تلك البطولة ما أراد وولف أن يقدم له التحية. كتبَ لاحقًا: «المقومات المطلوبة قد أصبح حكاية عن الأسباب التي تجعل الرجال راغبين... راغبين؟ بل سعيدين بتلك الرغبة! رغبة المشاركة في مهام غريبة كتلك، إنها مرحلة تاريخية أهملها كتّاب الأدب منذ أن وُصف عصرها بأنه عصر البطل الضد».
كانت النتيجة غير المقصودة من الكتابة عن أبطال صموتين كتومين، هي أن وولف قد كبح جماح أسلوبه المزخرف المبهرج للغاية. تخلى وولف (خاصة) عن التتابع الأدبي الصاخب؛ تخلى عن المونولوج الداخلي المفرط، الذي نجده مثلًا في مقاله «أناقة راديكالية»، بفقرات شهرية تبدأ بـ «مممممممممممممممممم. يا لجمالها. قطع الجبن الروكفور الصغيرة ملفوفة في المكسرات. لذيذة جدًا. ممتازة جدًا. كيف تظهر الهشاشة الجافة للمكسرات أمام طعم الجبن اللاذع والجميل للغاية، الممتازة للغاية. أتساءل ماذا تأكل الفهود السوداء[1] هنا كفواتح للشهية؟ أتحب الفهود قطع الروكفور الصغيرة ملفوفة في المكسرات بهذه الطريقة، وقطع نبات الهليون مع المايونيز، وكرات اللحم الصغيرة مع بيرة كوك هاردي، وكلها في تلك اللحظة معروضة عليهم على أطباق فضية مزخرفة تحملها خادمات بزيٍّ أسود مع مآزر بيضاء مكوية...».
هنا كتابة أكثر رزانة، أكثر براعة، وأكثر احترامًا. في «المقومات» كرّس وولف نفسه إلى كشف ما يدور بقلوب وعقول أول رواد فضاء من أمريكا -ييجر، كونراد، جريسوم، جلين- هؤلاء الأبطال الذين انطلقوا بصاروخهم إلى السماء ليتفوّقوا على الروس في ليل بهيم أزرق من انعدام الوزن، ليكونوا أول الواصلين إلى حدود جديدة، ولبثِّ الإثارة في حياة المواطن الأمريكي.
في نفس الوقت ظل وولف ابن زمنه. لم يقدر أن يتخلى عن حلم كتابة رواية. قال في كتابه «الصحافة الجديدة»: «من الصعب شرح المسألة، كانت فكرة كتابة رواية من أركان الحلم الأمريكي في الأربعينيات، والخمسينيات واستمرت حتى مطلع الستينيات. لم تكن الرواية مجرد شكل أدبي. كانت ظاهرة نفسية. كانت حُمّى دماغية. في قاموس المصطلحات سنجدها في مكان ما بين النرجسية والوسواس العصابي». بعد أن أكسبه «المقومات المطلوبة» أموالًا طائلة، كان توم وولف المستقر ماديًا الآن مستعد لأن يتسلق الجانب الشمالي من جبل بارناسوس حتى لو كان مصيره الموت. وحين طلبته «الرولنج ستون» مجددًا (والتي قامت بتكليفه وكأنه ديكنز)، حصلنا في النهاية على... رواية «نار الغرور»، لكن هذه قصة أخرى.
جملة ختامية
«حين تأتي آخر الأخبار، نسمعُ جرس الباب-في موقف كهذا تجد الزوجة نفسها تحدق في باب بيتها وكأنها لم تعد تملكه ولا سلطة لها عليه- وأمام الباب سيكون هناك رجل… جاء لإعلامها أنه لسوء الحظ حدث أمر ما هناك، وجسد زوجها الآن يرقد محترقًا في المستنقعات أو غابات الصنوبر أو بين حشائش البلميط، (احترق لدرجة لا يمكن فيها التعرف عليه)، وهي الصياغة اللطيفة التي يعرفها كل من كان في قاعدة جوية لفترة طويلة لوصف جسد إنسان يبدو الآن كدجاجة ضخمة قد احترقت في الموقد، يكسوها سواد بُني من الرأس إلى أخمص القدمين، مشحمة ومتقرحة، مقلية بمعنى آخر، وليس وجهها بالكامل والشعر والأذنين فقط ضمن الخسائر المحترقة، ناهيك عن الملابس التي احترقت، لكن أيضًا اليدان والقدمان، وما تبقى من الذراعين والساقين قد انثنى من عند الركبة والمرفق محترقًا، صانعًا زوايا حادة، احترقوا تمامًا بلون أسود بني أيضًا مثل بقية الجسد المشتعل، لذا كان هذا الزوج، أو الأب، أو الضابط، أو الجنتلمان، قُرة عين إحدى الأمهات، صاحب المكانة الغالية الذي كان رضيعًا قبل 20 عامًا، قد انقلب هيكلًا متفحمًا بجناحين وساقين تتدليان منه».
[1] الفهود السوداء Black Panther Party: هي منظمة سياسية كانت تنادي بحقوق السود استمر نشاطها من 1966 إلى 1982.
* الترجمة حاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه