يشدد أدورنو عند رفضه لفلسفة الهوية والعقل التماثلي والنظرة الثنائية للأشياء على أن الرفض لا يعني تبني موقف لاعقلاني كمضاد لعقلانية هيجل
الديالكتيك السلبي أو نقد فلسفة الهوية عند أدورنو
مقال: علي بابكر حسن
لقد كانت الفلسفة المثالية الألمانية من كانط إلى هيجل محاولة لتصوير «الحقيقة» أو «الفكرة الشاملة» على أنها وحدة الذات والموضوع واعتماد الهوية على أنها النظام الفلسفي الموحد للعالم، والبنية المنطقية للمثالية التي يقدمها هيجل حول هوية الواقعي مع العقلي وتحقق فكرة العقل في التاريخ والعالم. وبالرغم من أنه لا يمكن الاستغناء عن تفكير الهوية ولا يمكن التفكير بدون تحديد الهوية إلا أنه يمكن تجاوزها بالأداة المعرفية التي تثبت وجودها وهي الجدل، فمن خلال نقد فلسفة الهوية يتشكل الديالكتيك السلبي أو تفكير اللاهوية كغاية خفية لتحديد الهوية.
يتمثل نقيض الهوية في «اللاهوية»، وهي اللحظة السالبة في خط سير الجدل وتتضمن في داخلها حالة اللاتماثل، أي لا تماثل الشيء مع مفهومه. والديالكتيك السلبي عند أدورنو يسلط الأضواء على حالة اللاتماثل في لحظة السلب الجدلي وتجربة الفكر المتكرر فشله في تحديد هوية اللاهوية.
لكن قبل التطرق للمشروع الفكري لأدورنو لا بد من مخاطبة جذور مشروعه المعرفي وذلك لمعرفة القواعد التي يرتكز عليها أدورنو في نقده لفلسفة الهوية، وبذلك ننتهي للفرضية المبهمة التي يقوم عليها فكر التنوير وهي: «لا شئ يبقى خارج الفكر». تحيط بهذه المقولة هالة من الدوجمائية التي حاول كانط صياغة حل لها من خلال التمييز بين «التفكير» و«المعرفة» في دراسته لنقد العقل الخالص.
ﻷن الشكل الخالص للحدس بدون أي محتوى ليس فقط لا يمكن معرفته إنما أيضًا لا يمكن التفكير فيه، كما أن التفكير الذي هو ليس تفكيرًا في أي شئ لن يكون فقط فارغًا أي منحصرًا في الاستخدام المنطقي دون التركيبي، وإنما أيضًا أعمى، أي ليس تفكيرًا على الإطلاق ويفتقد للاستخدام المنطقي والتركيبي معًا. والفصل بين مجال الفكر ومجال الحواس أضر بهما الاثنين معًا.
يفهم تفكير أدورنو النقدي ذاته كتفكير جذري وليس تراجعًا عن التفكير النقدي فهو لا ينتقد العقل الخالص فقط، وإنما ينتقد «المفهوم الخالص» و«الحدس الخالص». التفكير غير الخالص هو نموذج محاولة أدورنو لتحرير التفكير النقدي من قيود المنهج التراندستالي الذي يغرق في المثالية المطلقة، وذلك من خلال إعادة صياغة التجربة بحيث تصبح مادية ومفهومية معًا، وهما عنصران لا يمكن الفصل بينهما، وهو ما يعبر عن المفهوم الأولي للديالكتيك السلبي عند أدورنو.
بمتابعة سير خط الفكر في التاريخ وعملية تحقق الفكرة الشاملة في العالم ننتهي إلى هيجل الذي حقق المشروعية الفلسفية لنقد العقل التماثلي أو نظرية الهوية من خلال الديالكتيك الذي يقوم على المماثلة بين الذات والموضوع في صيرورة مشتركة تحمل خواص الاثنين معًا وتقديم هوية العقلي مع الواقعي. وكان على أدورنو لكي يؤسس نظرية تكشف اللاعقلاني في العالم وتدرك لاعقلانية التاريخ وترفض فلسفة الهوية والأيدلوجيا التي تفترض وجود تماثل بين الذات والموضوع أن يعتمد على جدل السلب في محاولته لتقويض المماثلة بين الحقيقة والكلية. فهو يرى أن نظرية الهوية أو المماثلة لدى هيجل تفترض وجود ترابط منطقي بين الذات والموضوع بينما ثمة استقلال نسبي أو لا تماثل بينهما، فالذات تمتلك لاتناهيها المطلق وفي السياق المغاير نجد أن الموضوع يمتلك مناطق لامعقولة بالنسبة للذات وبالتالي لا يمكن عقد مماثلة كلية بينهما واعتمادها كفكرة شاملة أو هوية كلية للأشياء.
تعتبر هذه النقطة هي النقطة الجوهرية التي يعتمدها أدورنو لكي يخلص الفكر من وهم إدراك الواقع بكونه كليًا، وبالرغم من أن جدل السلب يخرج من داخل فلسفة الهوية ويحاول تجاوزها عن طريق السلب أيضًا، فالذات الإنسانية ليست في حالة تطابق مع الموضوع، فهي تخالف الموضوع، حيث تخرج عن الواقع وتمارس قدرتها على دراسة وهمها الخاص، فالوعي يمكن أن يتخذ من أفكار الأنا موضوعًا للتفكير وليس موضوعات الوعي هي التي تحدد لأنها لا تتماثل، وقد استفاد أدورنو هنا من هيجل ومفهوم النفي أو السلب في الجدل الهيجلي واستخدمه في تقويض نظرية الهوية، وهذا يعني أن مبدأ «اللاتماثل» قد خرج من داخل فلسفة الهوية وانقلب عليها باستخدام نفس أدواتها المعرفية.
ينظر أدورنو إلى الواقع على إنه عملية تواصلية مستمرة يتشكل فيها الواقع ويتغير إلى أشكال عديدة والذات هنا تقوم بعمليات نفي مستمرة لمفاهيمها عن الواقع، ولهذا فإن فاعلية الذات تتمثل في قدرتها على نقد تصوراتها عن الموضوع، ونقد الموضوع ذاته، وقد أدى ذلك إلى تخليص الفكر من وهم إدراك الواقع بوصفه كلية، لأن هذا يعني تحويل الموضوع أو الواقعي إلى كتلة كلية صماء غير قادرة على التعبير عن ذاتها ولكي يتم التعامل معها بصورتها الكلية ومن خلال منطق الهوية لا بد من إغفال الظروف النوعية واللاتماثل بين الذات والموضوع الذي رفع الستار عنه من خلال الديالكتيك السلبي الذي قدمه أدورنو.
يشدد أدورنو عند رفضه لفلسفة الهوية والعقل التماثلي والنظرة الثنائية للأشياء على أن الرفض لا يعني تبني موقف لاعقلاني كمضاد لعقلانية هيجل، فذلك يعني التسليم بالسلب المطلق، وإنما رفض العقل التماثلي يتأتى من نقد العقل لذاته وحدوده في الواقع والتاريخ والوعد بالمزيد من العقلانية لمواجهة العقلانية الأداتية التي صنعتها النظرة الثنائية للواقع، والكشف عن عقلانية مغايرة تدرك التفكك والاختلاف، بدلًا من رده إلى التماثل، وإدراك أن العناصر غير متماثلة في الواقع، وغير متطابقة مع ذواتها فهي في حالة سلب لمفهومها الثابت عن الواقع وتعمل على نفي واقع واهن متعين في ظروف محددة قد تكون مستهلكة لظروفها التاريخية والاجتماعية وفي حاجة للتجديد وإعادة البعث بصورة مستحدثة كي لا تغرق في الجمود الفكري.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه
