يظهر فى هذه الرواية تطور نجيب محفوظ عما كتبه فى سابقتها وهذا يوضح أنه من بدايات الكاتب فهو حريص على تطوير أسلوبه فى كل نص له . فالسرد فى (رادوبيس) غزير التفاصيل والشخصيات كثيرة ويتم عرض دوافعها وتصرفاتها بطرق ذكية على عكس (عبث الأقدار) التى يعرض فيها محفوظ لشخصيات نمطية ثم محاولة التأكيد على مفهوم (عبث الأقدار) من خلال سلسلة من الصدف التى تبدو فجة للقارئ المعاصر
لا يرقّم محفوظ الفصول فى نص رادوبيس هذه العادة التى حافظ عليها فى معظم أعماله اللاحقة ، ولكنه يعنون كل كل فصل بوصف ما أو باسم إحدى الشخصيات ، وفى الحالة الأخيرة كان يستخدم اسم الشخصية ليبدأ فصله بالتحدث عنها ويذكر كل المعلومات المهمة الممكنة ، ثم بعد ذلك يدفعها داخل الحدث أو الحوار ، ولا شك أن هذه الطريقة كانت تسهّل عليه الأمور ككاتب
من البداية يتحدث محفوظ عن الشارع المصرى فى الرواية كأنه الشارع المصرى الحديث ، بل أن حوارات الوجهاء عن أمور السياسة فى (رادوبيس) تشبه الأحاديث السياسية فى الثلاثية مثلاً ، القارئ لا يستطيع أن يمحو عصر الأربعينيات من ذهنه وهو يقرأ (رادوبيس) ، فصالون رادوبيس يشبه فى جانب منه صالونات الأربعينيات ، ولفظ رئيس الوزراء ، وخلاف رئيس الوزراء (المحبوب من الشعب) الدائم مع الملك ، كل هذه ليست سوى دلالات واسقاطات واضحة على عصر محفوظ
الشخصيات الرئيسية هى الملك مرنرع الثانى ، الملك الشاب القوى الذى لا يخلو من تهور وعناد وحب للنساء سيؤثر عليه خلال سير القصة
ثم مساعدا الملك وهما سوفخاتب كبير الحجاب صاحب الحكمة التى تنقصها القوة المرجوة ، ثم طاهو رئيس الحرس الملكى بقوته الظاهرة التى لن تخلو من نزوة ستؤدى إلى كارثة
ثم نيتوقريس زوجة الملك المخلصة التى تُجرح فى كرامتها ومع ذلك تظل بجانب زوجها إلى النهاية
وخنوم حتب رئيس الوزراء وكبير الكهنة وهو الشخصية المقاومة التى تواجه الملك وتنتصر عليه
أما بطلة الرواية فهى رادوبيس الغانية التى تأسر قلوب الرجال بجمالها وفتنتها
وقصة رادوبيس هى قصة تُحكى فى كتب التاريخ القديمة ، هيرودوت ذكرها وإن كان قد نفى عنها أنها بنت هرماً كما شاع عنها فى عصره . أما روجر لانسلين جرين فقد ذكر عنها فى كتابه عن أساطير مصر القديمة أن رادوبيس يونانية سباها القراصنة وباعوها لرجل غنى فكانت ضمن عبيده وكان رفيقها فى هذه الفترة إيسوب صاحب القصص الشهيرة . ثم باعها الرجل إلى تاجر يونانى مقيم فى مصر اسمه كاراكسوس وهو أخو الشاعرة سافو (وهذه التفاصيل ذكرها هيرودوت) ، ولكن كاراكسوس عامل رادوبيس بنبل ودللها كابنته ، حتى اختطف نسر ما صندلها وهى تستحم وحلق عالياً ثم ألقاه فى حضن فرعون مصر أماسيس ، الذى بحث عن صاحبة الصندل (على طريقة سندريللا) وعندما وجدها جعلها زوجه ، وعاشا فى سعادة حتى نهاية حياتهما
بالطبع محفوظ أسقط كثير من هذه التفاصيل ووضع تفاصيله الخاصة ، فهى عند محفوظ مصرية ريفية هربت مع عشيقها إلى الجنوب حتى هجرها العشيق ، ثم استطاعت بجمالها أن تتزوج من كهل ثرى فأصبحت غنية بفضل موته ، فأقامت صالون تستقبل فيه الضيوف وتسلم جسدها كل ليلة لرجل فيهم
تسير رواية محفوظ فى خطين رئيسيين :
الخط الأول : هو رغبة الملك فى استعادة الأراضى التى منحها أسلافه للكهنة ، هذه الأراضى التى يراها الكهنة ورئيسهم (خنوم حتب) بمثابة حق لهم . الفرعون عنيد ويصر على استعادة الأراضى ويفعل ذلك وسيدفع ثمنه ، نيتوقريس وسوفخاتب نصحاه بأن يستخدم الحكمة وأن يترك الأراضى فى حين أن طاهو كان مع رأى الملك العنيد والمندفع ، ومال فرعون لرأى طاهو
الخط الثانى : وهو حب الفرعون لرادوبيس ، الذى بدأ بفعل الصدفة (وفقاً للأسطورة) بأن اختطف النسر صندل رادوبيس ورماه عنده قدمى فرعون . عرف سوفخاتب أنه صندل رادوبيس ، ورغّب الملك فى صاحبة الصندل ، فى حين أن طاهو ولسبب فى نفسه (سبب حبه لرادوبيس) حاول أن ينفّر الملك من رادوبيس ووصفها بأنها ذات جمال رخيص
ولكن فرعون مال هذه المرة لرأى سوفخاتب ، وهذا بيّن ببساطة أنه ملك يسير حب أهوائه وأنه ملك عابث كما صاح عنه الشعب فينا بعد
مع ظهور الفرعون فى حياة رادوبيس تغيرت الأمور ، ولا شك فهى لن تستطيع أن تجعل الآخرين يشاركونه جسدها ، ولكنها احتفظت بحق افامتها فى قصرها ببيجة
من جهة أخرى فأمام إصرار خنوم حتب على الإحتفاظ بأراضى الكهنة بل وتوسيط الملكة نيتوقريس فى ذلك ، وجد الملك أنه من الأصح هو أن يعزله من منصبه ، ولم يكن يقدّر العواقب
الكهنة بدأوا يوغروا صدر الشعب ضد الملك الذى يلهو مع رادوبيس فى قصر بيجة
ولم يكن أحداً من أبطال القصة وربما من القراء يحسب حساباً لطاهو الذى يشعر بالغيرة الشديدة من فرعون حين أصبحت رادوبيس له وحده ، فيخون طاهو الملك بأن يساعد الكهنة على كشف مكيدة فرعون الذى دبر مع رادوبيس استدعاء الجيش بحجة أن قبائل النوبة أعلنت العصيان ، هذا الذى لم يحدث ، وبهدف حشد القوة للقضاء على الكهنة
كشف الكهنة ذلك وسارعوا بعمل ثورة شعبية ضد الملك ، بل والمطالبة بجعل نيتوقريس ملكة على مصر
انتهت الرواية بنهايات مأساوية للملك الذى أصابه سهم رماه أحد الثائرين ، ولرادوبيس التى قتلت نفسها بالسم . ولم يذكر محفوظ المصير الذى آلت إليه مصر بعد الثورة الشعبية
محفوظ لفق قصة رادوبيس مع قصة الملك العابث مع ثورة الشعب المصرى ليخدم هدفه ، الرواية جميلة وممتعة أدبياً غير أنها ليست عصرية وقد تكون ثقيلة نسبياً لمن اعتاد على الأدب الحديث ، ولكنها مثال جيد للأدب المحرض فى فترة زمنية ما