يُقال إن الكهنة في الحضارات القديمة كانوا يحافظون على لغة خاصة بالطقوس والعبادة والمعرفة لا يعلمها عامة الشعب، أو كانوا يحافظون على أمية الشعوب كيلا تسقط سلطتهم

أبعد عن لغة.. أقرب من اغتراب

مقال: عمر شاهين


عن the-faith

الاغتراب، نظريًا تتداعى مفردات كثيرة فور ذكر تلك الكلمة: تشيؤ، صنمية، سلعنة، استهلاك، عمل قسري التي تقودنا إلى واقع الرأسمالية اليوم. أو روح ودين ورب وطبيعة التي تقحمنا في نقاشات اللاهوت والفلسفة. أو عجز، فقدان المعنى، انعزال التي تذهب بنا إلى التحليل النفسي[1]. أحيانًا تبدو لي حالة الاغتراب غير محتاجة لوصف نتيجة كثافة الاستعمال أو ربما تكرار الشعور. وأحيانًا ينتابني الشعور بالاغتراب وأنا أقرأ ما كُتب عنه وحاول تحليله، ولا يجدر بي اعتبار الكلمة معروفة بالبديهة ولها تاريخ من التعقيدات التي سيصعب عليّ الخوض فيها، وستكون مغامرة أن أعتمد على معناها في الحس المشترك الذي يتفاوت من خبرة قارئ إلى آخر. إلا أني سأركن إلى ما يثيره اللفظ من الشعور بالانفصال، وفقدان الاتصال بالذات وتحققها العميق، والشعور بالغربة، غربة عن الذات أو العمل الناتج عنها، أو بأنك مسلوب الإرادة أو الفاعلية في الممارسات الاجتماعية. لن أنطلق من محاولة توصيفٍ مبهمة تزيد الشعور بالاغتراب، لأنه يتراءى لي أن الاغتراب بدئي وأولي، ويمكن للمحاورات مع المفهوم المتعددة أن تضللنا، لكن يمكنني أن أنطلق من معطيات محددة، أولية وبدئية هي ما تشكل واقع الاغتراب.

إليك المعطيات: شاب، عربي، مديني، وُلد في أواخر التسعينات. وها هو السؤال: أي لغة يتحدثها هذا الشاب؟ والإجابة: يتكلم العربية فصحى وعامية إضافة إلى لغة أجنبية تتخلل عادة كلامه العربي.

أما المشكلة فهي أنه يقف في المنتصف من كل تلك اللغات؛ فعاميته التي تعطيه شعوره الوطني والتي يستخدمها عادة، عامية مُرشَّدة لأنها مدينية، إذا قارناها بعامية الأرياف أو الأنحاء اكتشفنا فقرها، وإذا قارناها بعامية الشعراء والزجالين رأينا حدودها. وفصحاه التي يستخدمها في تعليمه وما يكتب، مستقاة من برامج التلفزيون والصحافة والكتب المترجمة، فإذا قارناها باللغة الفصحى التراثية أو بعض مفردات العربية الحديثة تبين فارق رهيب بينهما. وأجنبيته التي تنشّأ على رونقها تبدو سطحية إذا تجاوزنا أسماء الماركات وتعابير الحياة اليومية وحدود التخصص الدراسي.

ألتقط الآن ثلاث صور: الأولى من بعيد: شاب معولم تعددي منفتح على المستقبل، الثانية من قريب: شاب بلغات مبتسرة لا تكتمل أي منها. الثالثة من الداخل: اللغة مشكلة لا تُرى. وفي المحصلة: إذا ما نظرنا إلى اللغة بوصفها وسيلة للتعبير، فإن هذا الشاب يفتقد إلى اللغة التي يعبر بها عن ذاته وإشكالاته بشكل يستوفيها، وسيلجأ إلى طرق أخرى ليس من بينها الكلام، إذ يصيبه ما يسميه العرب أحيانًا بالـ«حبسة».

وإذا اعتبرت اللغة وسيلة أو فاعلة؛ فبوصفها وسيلة لإدراك الذات والعالم، يفتقد هذا الشاب إلى إدراك مستقر ومتسق، واللغة لا تسعفه في إدراك الأشياء. أما إذا نظرنا إلى اللغة بوصفها مُشكِّلة العالم والذات والتصورات، فإن التجاذب والتنافر بين الاتجاهات الثلاثة بينهم وانتقاصاتهم سيجعل الاغتراب ما يميز هذا الشاب.

بالطبع ليست اللغة مصدر هذا الاغتراب بل للاغتراب مصادره السياسية\الاقتصادية\الاجتماعية التي ربما هي الظرف الذي أنتج هذه الحالة من الاغتراب اللغوي وربما المفسر لها كذلك، لكن الحديث عن الاغتراب الذي تحدثه اللغة يقتصر دائمًا على العنف الرمزي أو تقنيات المراقبة والمعاقبة أو التابوهات اللغوية والحجب والمنع[2]، بينما الحالة التي نحن بصددها أسبق من الاستعمال اللغوي تحريمًا وإباحة، أي أسبق من السياسات اللغوية التي تكرس لسلطة أو تنفِذها أو تحول دون مقاومتها، بل تتعلق أولًا بإمكان اللغة، الذي قد يعني إمكانية امتلاك لغةٍ تخص المرء وتسكنها أهدافه ويستولي عليها[3]، أو تشكيل اللغة لأفقه وفرضها بنيتها وحدودها عليه حيث يكون منقادًا لها وتكون طيّعة له في آن واحد في إطار مستقر ينساب التعبير فيه بالكلام دون تفكير في اللغة أو إشكالاتها. بتعبير آخر، يمكننا أن نسلّم باللغة مجاًلا لتشكل الهويات في نفس الوقت الذي تفصح عن نفسها من خلالها. وعليه فإن صاحبنا بوجوده بين تقاطعات اللغات الثلاث قد حيل بينه وبين أن يكوّن أيّ من هويات ثلاث مكتملة (الفصيح، العامي، الأجنبي).

إذا سلمنا بأن هذه الهويات الثلاث متمايزة ومتغايرة (ولنسلم بذلك ولو مؤقتًا على أساس أن لكل منها رؤية) فلنأخذ بالاعتبار أن أي نسق هوياتي ليس بمستغلق على نفسه، بل لا بد أن يشتمل على مفردات من الأنساق الأخرى سواء مثّلت الآخر الضروري، أو امتزجت في البنية المركبة لكل نسق، فلا يخلو النسق العامي مثلًا من مفردات فصيحة وأجنبية لكنها تخضع بالأخير لمظلة النسق الذي لا بد أن يحمل تصورات عن نفسه وعن الأنساق الأخرى إجلالًا أو استخفافًا، جهلًا أو تجاهلًا، تندرج في هذه التصورات مثلًا: تقديس لغة المقدس، أو ازدراء الفزلكة، وجل ما يعبر به الأجنبي عن لغة ويوصف بأنه استشراق. وهنا نفترض أن ثمة نموذجين، الأول هوية مكتملة متطابقة مع نسق لغوي، والثاني قد مُنع من ذلك.

هذا المنع أو الحيلولة قد تم لاستعصاء اللغة بالدرجة الأولى، وهذا الاستعصاء ليس نتيجة امتناع اللغة أو الجهل بها؛ وإنما نتيجة توفّر نموذج مُرشَّد من اللغة، أي حيل بين الإنسان واللغة بوجود اللغة وجودًا منقوصًا، وهو ما ينتج اغترابًا هوياتيًا، يزيده إطار تنافس الخطابات الثلاث على ناصية الثقافة[4]، فتجاه خطاب الهوية العربية الإسلامية يشعر صاحبنا بالتقصير مثلًا لما ترسخ من خطاب عربي وإسلامي لم يكف عن اللوم على الجهل بها، وأمام خطاب الاستعصاء الغربي وترجماته المحلية الطبقية يشعر صاحبنا بعدم الانتماء تدعمه مواقف مبادئية وفكرية تجاه الاستعلاء الثقافي، وتجاه الموقف الشعبي العامي الرافض لهذا الشاب المتمدن سيشعر صاحبنا بالنبذ، فهي حالة اغتراب هوياتية-اجتماعية تمامًا، حيث الفشل في الانضمام العفوي للطائفة.

وفي حال انخرط صاحبنا في أي من هذه الاتجاهات الثلاث، أي قرر مثلا تعلم التراث ولغته وصار تراثيًا، أو صار أجنبي اللغة والهوى والثقافة، أو هام في حواري مصر وتعابيرها وأمثالها، فإن الإشكالية اللغوية\الهوياتية ملازمة له في دوافعه، وهي إحدى صور الاغتراب كذلك، ولكنها تتخذ هنا شكل العزلة التي يفرضها على ذاته عندما يريد أن يكون إدراكه للعالم بلغة أحادية لا تعكس تناقضات العالم، وتناقضاته التي نشأ هو فيها، أي صار غريبًا على زمانه وسلبيًا تجاه إدراكه.

وهنا تظهر جوانب أخرى للمشكلة: إن الشعور بالعجز أو الغربة أو الجهل الذي يلاقيه صاحبنا تجاه الخطابات الثلاث لا يكون موجهًا صوب اللغة، بل ناحية الموضوعات التي تعبر عنها اللغة، فالعجز يكون إزاء تعلم العلوم الشرعية ، أو متابعة مستجدات العلوم بالأجنبية، أو فهم الخطابات الشعبية وإنتاجها، هنا ينشأ نوع آخر من الاغتراب لنطلق عليه الاغتراب المعرفي.

ولنفترض أن لغات العلوم والآداب عبارة عن أكواد أو شفرات، تحد هذا العلم أو الفن وتميزه، ولكن امتلاك البعض لهذه الأكواد –فقط- يجعل منهم سدنة للعلم أو الأدب وكهنته، أي سلطة معرفية على أساس من معرفة لغة العلم (امتلاك الاكواد والتلاعب بها) واستعصاء اللغة على البقية يضمن بقاء هذه السلطة، إذ العلم فيها محصور في اللغة-الشفرة ووظيفته خدمة ملاكها لا «اعرف نفسك» أو «حرر نفسك».

يُقال إن الكهنة في الحضارات القديمة كانوا يحافظون على لغة خاصة بالطقوس والعبادة والمعرفة لا يعلمها عامة الشعب، أو كانوا يحافظون على أمية الشعوب كيلا تسقط سلطتهم، في هذا السياق يُذكر أن الفلسفة تُنسب إلى الإغريق لا المصريين القدماء ليس لنشأتها في اليونان بل كانت في مصر، لكنها كانت محجوبة فيها بين يدي كهنة المعابد، بينما مجال المدينة «الديموقراطي» في اليونان القديمة سمح للفلسفة أن تزدهر تزامنًا مع كسر فرض طبقة معينة هيمنتها بسبب امتلاكها الأكواد/ اللغة.

إن المشكلة هنا تكمن تحديدًا في أن الاغتراب اللغوي يُمارس بسببه وبه سطوة وسلطة معرفية، واستلابًا للإنسان بهذه اللغات بعيدًا عن موضوعاتها؛ فالفيلسوف ليس فيلسوفًا إلا بقدر ما يستخدم من لغة الفلاسفة وكذلك الشاعر و«المثقف المستنير» و«الباحث الجاد»، والولع باللغة هنا نتيجة الجهل بها مسيطر على وضع المعارف، ولع بالألفاظ لا المعاني إن جاز القول، الأدهى ألا يكون هؤلاء «المتخصصون» سدنة العلوم متلاعبين باللغة عن نية شريرة، بل يرون في استعمال اللغة كالخبراء (في عملية محاكاة تامة) مبتغاهم وكفايتهم، وهو ما يجعلهم حرَفيين وحِرفيين.

تستطيع تلمس الاستلاب المعرفي الناتج عن الاغتراب اللغوي في التلاعب بأكواد اللغة ومحاكاة شفراتها، في محاضرات الجامعة التي ترادف فيها المعرفة استخدام «كلمات العلم» وفي خطب الجمعة التي تبادل بين كلمة عربية وأخرى عامية، وفي خطابات التلفزيون العامة التي يكون فيها شرح مفردة أجنبية عادية جدًا مدار حديث الخبير. وفي رحلة الحضارة الإسلامية من «خلافة العقل» وسلطان الفقه (مرادف الفهم) ومكانة العلماء فيها، إلى الاكتفاء بالخطابة والولع بزخرف قول الأئمة، مثال على حجب اللغة للمعرفة حين يدفع عدم إمكانها إلى الاكتفاء بمعرفة رسومها.

وعلى عكس الدارج في الحديث العربي عن اللغة الذي يأتي لبيان أهميتها للهوية والمعرفة ..إلخ وتأثيراتها المختلفة على «الفرد والمجتمع» إلى آخر هذا الكلام المكرّس لسطوة معرفية، والساعي لإثبات أحد فروعها، وتأكيد مكانها بين سلطات المعرفة فليس الحديث هنا عن اللغة أو الهوية، بل على العكس هو حديث عن الاستلاب أو الاغتراب وهو قضيته التي تشغل باله، وكيف لهذه الحالة المحددة من اللغة المرشّدة وما تستتبعه من قطع طريق تشكل هوية مكتملة أن تنتجه.

إن الاغتراب الناتج عن اللغة على هذا النحو هو «معطى» أي أننا نسعى لاكتشافه باعتباره فاعلًا، لا اختراعه باعتباره تفسيرًا لظاهرة، يعني كذلك أنه معطى مادي يتعامل مع أنساق هويات لغوية حاضرة في الواقع لا نتيجة فكرة ثقافية تؤسس لحالة أدبية أو لغوية. لكنه معطى خاص بجيل محدد، جيل الشاب المديني من جيل الألفية، وهو ما يجعل إدراكه ومعالجته حاضرًا في كل كلام، وكل كلام عن الموقف من المعرفة وتصورات العالم ومواقع الذات، ومفتتح الحديث في مواجهة الاستلاب.


[1] يمكن العودة إلى رايموند وليامز في الكلمات والمفاتيح للمزيد، وإلى كتاب فالح عبد الجبار بعنوان الاستلاب لنظرة شاملة وفلسفة تاريخية للمفهوم.

[2] تبرز هنا أسماء بيير بورديو، ميشيل فوكو، جاك دريدا مثلًا.

[3] والتعابير لميخائيل باختين.

[4] ترصد نيلوفر حائري في كتابها: لغة مقدسة وناس عاديون معضلات الثقافة والسياسة في مصر، هذه «المعركة» بين التيارات وحمولتها الأيديولوجية اللغوية.


* المقال خاص بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه