الاستلقاء بعشوائية في الفراش بصحبة كتاب كان أمرًا يدل على الانحراف الأخلاقي.
مخاطر القراءة في الفراش
مقال: نيكا ماڤرودي*
ترجمة: جهاد زيادي
*نيكا مافرودي كاتب وباحث مقيم في برلين
نُشر في موقع The Atlantic، مايو 2017
وجد خدمُ اللورد ولسينجام سيدّهم في فراشه محترقًا متفحمًا ذات صباحٍ من عام 1931. ووفقًا لخبر نُشِر في جريدة ذا سبيكتيتور The Spectator، فإن «بقاياه قد احترقت كلية تقريبًا؛ إذ تحولت يداه وقدماه إلى رماد بمعنى الكلمة، ولم يتبق منه سوى الرأس والهيكل العظمي اللذين لم يوحيا بأنهما بقايا إنسان»؛ كما انتهت حياة زوجته نهاية مأساوية؛ إذ ألقت بنفسها من النافذة هربًا من النيران فهوت إلى حتفها.
ثم جعلت صحيفة ذا فاميلي مونيتور The Family Monitorمن وفاة اللورد والسينجام موتًا يتحدث عنه القاصي والداني. فربما راح في النوم أثناء القراءة، كما استنتج محرروها، وهي ممارسة سيئة السمعة تساوي عمليًا الموت حرقًا لأنها تتطلب وجود شموع مشتعلة. ومن هذا المنطلق أصبح الحادث قصة تحذيرية. فتم حث القراء على عدم اختبار الله بالعبث بأفظع الأخطار والمصائب، أعني الإثم الفاضح المتمثل في اصطحاب كتاب إلى الفراش. وبدلًا من هذا، طلبوا منهم أن يختموا يومهم «بالصلاة ليقوا أنفسهم من الخطر والأذى الجسدي». لقد اعتبرت افتتاحية الصحيفة القراءةَ في الفراش فشلًا أخلاقيًا، وتلك نظرة شائعة في تلك الفترة.
كان الرابط بين الفضيلة والوفاة رابطًا معقولًا إلى حد ما. فقد كان من شأن تجاهل إطفاء الشموع أن يوصل النيران إلى ستائر السرير، وهو ما يؤدي بدوره إلى خطر فقدان الأرواح والممتلكات. وهكذا فإن الاستلقاء بعشوائية في الفراش بصحبة كتاب كان أمرًا يدل على الانحراف الأخلاقي.
إن الكتابات التي ظهرت في القرنين الثامن والتاسع عشر كانت كثيرًا ما تصف العواقب المرعبة المحتملة للقراءة في الفراش بطريقة درامية. فمذكرات هانا روبرتسون المنشورة عام 1791 بعنوان «حكاية الواقع والأسى كذلك» the tale of truth as well as of sorrow أحد الأمثلة على ذلك. فهي قصة درامية عن التردي تتمحور حول أنشطة مؤسفة من أنشطة النوم لزائر نرويجي يروح في النوم أثناء القراءة، فتشتعل النيران في الستائر و تصل ألسنة اللهب إلى أجزاء أخرى من الأثاث والمباني، ما يأتي على نسبة كبيرة من الممتلكات.
ولم يسلم المشاهير ولا اﻷموات من اللوم بسبب انغماسهم في هذه الممارسة. ففي عام 1778، قامت سيرة كتبت بعد وفاة الراحل صمويل جونسون بمحاسبته بسبب عادته السيئة المتعلقة بالقراءة بجانب السرير، واصفةً الكاتب البريطاني بالطفل الوقح. كما ادعت سيرة ذاتية كُتبت عن جوناثان سويفت أن الكاتب الساخر والقس كاد أن يحرق قلعة دبلن وحاول إخفاء الحادثة بدفع رشوة.
من الناحية العلمية، ربما كانت القراءة في الفراش أقل خطورة مما ظهر من قدح عموم الناس لها. فمن بين الحرائق البالغ عددها 29069 حريقًا التي سُجلت في لندن ما بين عامي 1833 و1866، لم ينسب منها إلى القراءة في الفراش سوى 34 فقط. وقد كانت القطط مسؤولة عن عدد مشابه من حوادث النيران.
فلماذا شعر الناس إذن بالتهديد من هذه الممارسة؟ كانت القراءة في الفراش مثيرة للجدل لأنها كانت ممارسة غير مسبوقة: في الماضي كانت القراءة ممارسة جماعية وشفهية. بينما كانت القراءة الصامتة نادرة جدًا لدرجة أن في كتابه الاعترافات، يعبر القديس أوغسطين Augustine عن اندهاشه عندما رأى القديس أمبروز Ambrose يستخلص المعنى من النص عن طريق المرور بعينيه ببساطة عبر الصفحة رغم أن صوته «كان صامتًا ولسانه ساكنًا».
***
أثناء القرنين السابع والثامن عشر، كان اصطحاب كتابٍ إلى الفراش ميزة تقتصر على هؤلاء الذين يجيدون القراءة ويستطيعون الوصول إلى تلك الكتب، والذين يتيسر لهم البقاء وحيدين. وقد حول اختراع الطباعة القراءة الصامتة إلى ممارسة شائعة – وإلى ممارسة مرتبطة بظهور مفاهيم جديدة عن الخصوصية. فقد كانت القراءة المنعزلة شائعة جدًا بحلول القرن السابع عشر، وغالبًا ما كانت الكتب تخزن في غرفة النوم بدلًا الصالون أو المكتب.
في هذه الأثناء، كانت غرفة النوم تتغير أيضًا. فقد أصبح النوم يتسم بالخصوصية والانفرادية أكثر من ذي قبل. في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حتى الأسر الملكية كانت تفتقر إلى الخصوصية الليلية التي يعتبرها النائمون المعاصرون أمرًا مفروغًا منه. ففي أسرة تيودور الحاكمة Tudor، قد تنام الخادمة على سرير خفيف نقال بجانب السرير أو قد تدلف تحت الأغطية مع سيدتها الملكية طلبًا للدفء. وأثناء النهار كان السرير مركز حياة البلاط؛ حيث يخصص الملوك غرفة نوم منفصلة لإدارة الأعمال الملكية. وفي الصباح كانوا يتنقلون من غرف نومهم إلى جزء آخر من القلعة، حيث يستلقون على أسرة أكثر فخامة لاستقبال الزوار.
في أوروبا في العصر الحديث المبكر حددت العائلات الملكية سلوكيات الفراش في المجتمع الأكبر. فعادة ما تعيش أسر الفلاحين المتواضعة في غرفة واحدة. وبحكم الضرورة، كانت الأسرة تنام في سرير واحد أو تضع عدة أسرّة بسيطة جنبًا إلى جنب. وفي البيوت البرجوازية الكبيرة ذات الغرف المتعددة، كانت غرفة النوم أيضًا هي مكان التجمع العائلي. وقد اختُرع السرير بناموسية خلال هذه الفترة، ومعه ظهر المفهوم الحديث للخصوصية. ففي منزل مزدحم مؤلف من غرفة واحدة، كان إغلاق ستائر السرير فرصة نادرة للسماح بالعزلة. وفي العزلة تسنح الفرص الخطيرة للتجاوز.
في كتابه عن تاريخ الاستمناء، «الجنس الفردي»، يؤسس المؤرخ توماس لاكوير (Laqueur) لوجود رابط مباشر بين ضيق الناس في القرن الثامن عشر من القراءة الانفرادية الصامتة للرواية وبين الوضع الجديد للاستمناء باعتباره تهديدًا عموميًا: «قدمت الروايات للنساء، مثلها مثل الاستمناء، بدلاءً لـ(رفاق الوسادة)». وقد أدينت هذه «الرذائل المنفردة»، كما يسميها لاكوير، مخافة أن يؤدي الاستقلال الذاتي الفردي إلى انهيار النظام الأخلاقي الجمعي.
مع تغير النوم من كونه ممارسة أكثر عمومية إلى ممارسة أكثر خصوصية وانعزالية، أصبح الفراش مصدرًا لهذه المخاوف. ففي نهاية المطاف، لم يكن الخطر الحقيقي الذي تشكله القراءة في الفراش هو خطر الإضرار بالحياة أو الممتلكات، بل بالأحرى فقدان الثوابت التقليدية.
أكدت التغييرات التي طرأت على القراءة والنوم على الاكتفاء الذاتي وهو الأساس الذي قام عليه الفكر التنويري. فقد فصل التوجه الجديد الفرد من أبناء القرن الثامن عشر عن المجتمع، فالمناخ الاجتماعي وما يتضمنه من قراءة شفهية ونوم جماعي يدمج الفرد في الجماعة. فعند خلود فتاة شابة إلى النوم، فقد تشعر بشخير أبيها، أو قد تجد أختها الصغرى متكورة عند قدميها. وعندما تسمع قصصًا تقرأ من الكتاب المقدس، تكون في حضرة شخصية ذات نفوذ وسلطة تقوم بتأويل معنى النص.
خشي الناس من أن تعزز القراءة المنعزلة حياةً خيالية خاصة من شأنها تهديد الحياة الجماعية، خصوصًا فيما بين النساء. فالتي تنام وحدها تجدها منغمسة في خيالات عالم آخر، وهو المكان الذي لا تعرفه إلا في الكتب. وأثناء النهار يمكن لسحر الرواية الخيالية دفع امرأةٍ إلى غرفتها للقراءة في الفراش وهو ما يأتي على حساب التزاماتها الاجتماعية.
يقال إن السوبرانو الشهيرة كاترينا جابرييللي كانت تقرأ واحدة من مثل هذه الروايات في الوقت الذي أهملت فيه حضور حفل عشاء مع صفوة المجتمع الصقلي في منزل نائب باليرمو، الذي كان لديه نية التودد إليها. وعندما أرسلوا أحدًا لاستدعاء تلك المغنية الغائبة وجدها في غرفة نومها منغمسة كليًا في القراءة حتى أنها نسيت هذا الموعد. فاعتذرت عن سوء سلوكها لكنها لم تبرح الفراش.
يصاحب الذعر الأخلاقي فترات التحول الاجتماعي، فشبكة الإنترنت التي غيرت الطريقة التي يقرأ بها الناس ويتواصلون بها مع الآخرين، هو نسخة العالم المعاصر من الرواية بما لها وما عليها. فالخوف منها يشابه مخاوف القرن الثامن عشر من القراءة في الفراش. لكن القراءة في الفراش الآن هي موضوع الخطر لا سببه المفترض.
أخبر الروائي فيليب روث صحيفة لو موند La Monde في عام 2013 إنه «على المرء أن يعترف بانتصار الشاشة»، وقال أيضًا: «لا أتذكر أبدًا في حياتي أن الكتب قد مرت بهذا الوضع السيئ –بكل ما تطلبته من تركيز ثابت لا ينقطع- مثلما يحدث اليوم. ولسوف يزداد الوضع سوءًا غدًا وبعد غد».
ربما كان روث على حق، فالتركيز الثابت غير المنقطع يتطلب عزلة. لكن من المفارقة أن قلق روث في القرن الحادي والعشرين يأتي على النقيض من مخاوف القرن الثامن عشر. فاليوم، وعندما يستريح الناس وحيدين في الفراش ليلًا، تنبعث ضجة الأصدقاء والغرباء من شاشاتهم. فحضور الآخرين لم يعد بالأمر المهم فيما يتعلق بالقراءة في الفراش. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن المرء لا يمكنه فعل ذلك بمفرده بعد الآن.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها