الحياة تتغير بسرعة. الحياة تتغير في لحظة. تجلس لتناول العشاء فتنتهي الحياة التي كنت تعرفها

عام التفكير السحري لجوان ديديون

مقال لروبرت مكروم

نُشر في الجارديان أغسطس 2016

ترجمة: سهير رجب الشرقاوي


جوان ديديون، عن الجارديان

رقم واحد في هذه السلسلة (كتاب «الانقراض السادس») وضع في الاعتبار إمكانية هلاك البشرية الوشيك من منظور عالمي أوسع. مع الترشيح رقم 2 ينتقل التركيز إلى إطار أضيق وأكثر برودة وأكثر حميمية وكذلك شخصي للغاية. في ديسمبر 2003، أتيحت لجوان ديديون فرصة فريدة لاختبار تجربة الفقد، بصفتها مراسلة فطنة لحالاتها الداخلية مدى حياتها.

الحب والموت من سمات الروايات العظيمة، لكن المشاعر التي تربط الحب بالموت -الحزن- غالبًا ما تكون مادة مذكرات أكثر منها مادة للخيال. ومع ذلك، يجب أن تكون كاتبًا من نوع خاص جدًا لتجد هذا الانفصال الذي يُمَكِّنَك من الكتابة عن خسارة شخصية مدمرة، خاصة إذا ما كنت ستكتب عنها من الداخل إلى الخارج. في «عام التفكير السحري» كان هذا بالضبط هو ما فعلته ديديون.

تتغير الحياة بسرعة. تتغير الحياة في اللحظة. تجلس لتناول العشاء فتنتهي الحياة التي كنت تعرفها.

والنتيجة تحفة عن الحداد والذي كان أيضًا ذروة للتحقيقات الصحفية التي اتسم بها عهد الجيل المولود بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان مثل احتفال مهيب بالذات الفاتنة. «مذكرات البؤس» رائجة اليوم -كتاب جويس كارول أوتس «قصة أرملة» (2011) يُعد مثالًا نموذجيًا- لكن مساهمة ديديون في هذا النوع الكتابي أعلته إلى مرتبة الأدب، وهي نقطة اعترف الكاتب المسرحي ديفيد هير، الذي أخرج نسخة المؤلفة الخاصة في اقتباس مسرحي من بطولة فانيسا ريدجريف في عام 2007.

ببرودة ووضوح ودقة وعواطف مكبلة، ومن خلال شبكة من الكلمات، تروي ديديون قصة العام الذي بدأ عندما انهار زوجها، الكاتب جون جريجوري دن، إثر نوبة قلبية قاتلة في شقة الزوجين في أبر إيست سايد في مساء يوم 30 ديسمبر 2003. («الحياة تتغير بسرعة. الحياة تتغير في لحظة. تجلس لتناول العشاء فتنتهي الحياة التي كنت تعرفها»). أخيرًا وبهدوء، تساعد مذكرات ديديون التشريحية بدقتها المتناهية على التطهر من أحزانها ووضع خسارتها في سياق الترمل الجديد.

أكملت معاناة هذه الحكاية الدراما الموازية لحالة الطوارئ الطبية التي كانت مرت ابنتهما كوينتانا، دخلت المستشفى في نيويورك بسبب الالتهاب الرئوي ثم تحولت الحالة إلى صدمة إنتانية.[1] في الواقع، كانت كوينتانا لا تزال فاقدة للوعي في وحدة العناية المركزة في مستشفى بيت إسرائيل الشمالية عندما توفي والدها. خلال عام 2004 تعافت كوينتانا، ثم انهارت مرة أخرى بسبب نزيف دماغي. بعد أقل من عامين، توفيت بسبب التهاب البنكرياس الحاد عن عمر يناهز 39 عامًا، بعد سلسلة من الصدمات في المستشفى وقبل إصدار كتاب «عام التفكير السحري»، كتاب ديديون الأكثر مبيعًا حتى الآن، شرعت ديديون في كتابة رثاء كوينتانا في كتاب «الليالي الزرقاء»، الذي نُشر بعد ست سنوات، لكن وبشكل مفهوم تمامًا وربما حتميًا، بالكاد استطاعت تمكين نفسها من مواجهة تلك المهمة.

هذان الكتابان مجتمعان، وخاصة التفكير السحري، يعززان سمعة ديديون العظيمة كواحدة من أعظم دعاة التقارير الصحفية المكتوبة من منظور ذاتي في الولايات المتحدة بعد الحرب. يكتب لويس ميناند، في نيويوركر، مجسدًا جوهر ديديون: «الناس أعجبوا بمجموعة التسكع نحو بيت لحم (على الرغم من أنها لم تحظ -في البداية-  بمبيعات ضخمة). أثار اهتمام الناس كتاب (كيفما اتفق)، رواية ديديون الثانية، والتي صدرت بعد عامين (على الرغم من أنها تعرضت لبعض المراجعات العدائية)، لكن وبشكل أساسي وعلى الرغم من ذلك، كان الجميع مفتونًا بشخصية المؤلفة، المرأة المصابة بوهن الأعصاب شديد الحساسية التي قادت سيارة كورفيت ستينجراي، المرأة الهزيلة المصابة بالصداع النصفي وصاحبة النظارات الداكنة والعقل الباحث، والكاتبة التي بدت وكأنها تعرف عن أعماقها ما يخشى القراء مواجهته، وهو أن مصادر الدعم لم تعد صامدة، والصقر لا يستطيع سماع الصقّار، والقصة مبتورة».

قصة عام التفكير السحري (عنوان مستوحى من الاستخدام الأنثروبولوجي لمصطلح «التفكير السحري»، والذي يمكن من خلاله تجنب الأحداث الكارثية) هو ببساطة تعبير عن الحزن سريع التقلب الذي مرت به ديديون في أعقاب وفاة دن. ذكرت ديديون عدة أمثلة على «تفكيرها السحري»، لا سيما الطريقة التي لا تستطيع بها التخلي عن حذاء زوجها، لأنها اعتقدت أنه سيحتاجه عند عودته.

في البداية، تعكس مذكرات ديديون ألمها من خلال الأدب، أدبها وأدب الآخرين، لكن تتركها هذه الكتب غير راضية. وفي أوقات الشدة تكتب: «لقد تدربت منذ الطفولة على أن أقرأ، أتعلم، أعلو بمستوى ما أعمل، ألجأ إلى الأدب، وكانت المعلومات هي التي تمكنني من السيطرة، ولأن الحزن لا يزال هو أكثر الآلام عمومية، بدا أن الأدب المتعلق به غير كافٍ بشكل ملحوظ، كانت هناك يوميات سي. إس، لويس التي احتفظ بها بعد وفاة زوجته، (ملاحظة الحزن)»، ولكن ليس أكثر من ذلك.

تنهار دفاعاتها بطء على الصفحة. كتبت «أردت أن أصرخ».«أردت عودته». ثم، من خلال «تخوفها من الموت» (هذا العدو الرابض في الكواليس) ومخاوفها المتكررة اليومية بسبب ضعف قدرتها على التكيف تقول: («بدأت أشعر بالضعف وعدم الاستقرار ... ماذا لو هلكت؟») ، تواجه هاوية من الحزن. تقول في واحدة من أفضل فقراتها النثرية:

«تبين أن الحزن مكان لا يعرفه أحد منا حتى نصل إليه، نتوقع (نعلم) أن شخصًا قريبًا منا يمكن أن يموت، لكننا لا ننظر إلى ما بعد الأيام أو الأسابيع القليلة التي تلي مثل هذا الموت المتخيل مباشرة. نسيء فهم طبيعة تلك الأيام أو الأسابيع القليلة، قد نتوقع أن نشعر بالصدمة إذا كان الموت مفاجئًا. لا نتوقع أن تكون هذه الصدمة طمسًا وخلعًا للجسد والعقل، قد نتوقع أننا سنتمدد على الأرض، بلا عزاء، نجن من جراء الخسارة، لكننا لا نتوقع أن نصير مجانين حرفيًا، وعملاء ممتازين للحزن، يعتقدون أن زوجهم على وشك العودة ويحتاج إلى حذائه».

عام التفكير السحري إنجاز عصيّ على النسيان. مكتوب في وقت شديد الصعوبة، كتابة متقدة استمرت من أكتوبر إلى ديسمبر 2004، كانت حائرة مربكة في كثير من الأحيان: كتابة قوية ودقيقة في آن واحد، لكنها غامضة ومبهمة، صريحة لكنها رصينة بهوس. إنها تقرن الموت بالزواج، حيث يحكي أحدهما عن الآخر أدق تفصيله، بينما الآخر في الشظايا الثاقبة التي تطارده بشبح الألم والعاطفة على حد سواء. كان جون جريجوري دن حاضرًا بشدة في كل صفحة، لكن غائب من حيث الشخصية، تظهر نسخة ديديون الصدق لكنها تترك العديد من مجالات الفضول المباح فارغة تمامًا وغير مشبعة: (فما مدى جودة الزواج؟ وما مدى حميميته؟ وما مدى أمانه؟).

وبهذه الطريقة، تصبح القصة التي تبدأ في الجانب الشرقي العلوي في مدينة نيويورك قصة عالمية وعميقة وراقية، ومرآة يمكن أن يجد فيها التعيس والمكلوم من جميع المجتمعات العون. أخيرًا، انضمت جوان ديديون إلى تلك المجموعة المختارة من الكتاب، بقيادة سي إس لويس، الذين حولوا الحزن إلى أدب.

جملة بارزة

«نحن مجرد كائنات فانية غير كاملة، واعين بالفناء حتى وإن كنا ندفعه بعيدًا، فشلنا عائد إلى شدة تعقيدنا، لدرجة أننا عندما نحزن على خسائرنا فإننا نحزن أنفسنا أيضًا، في السراء والضراء. لن نعود كما كنا، وفي يوم ما لن نكون موجودين على الإطلاق».


[1] الصدمة الإنتانية (بالإنجليزية: Septic shock)‏: حالة طبية خطيرة تحدث نتيجة الإنتان الذي ينتج عنه تلف وأذى للأعضاء الحيوية كنتيجة للعدوى، مما يتسبب في انخفاض ضغط الدم ينتج عنه حدوث مشكلات في طريقة عمل الخلايا وإنتاج الطاقة. ويؤدي تفاقم المرض تهديد حياة المريض.