عُرف الكاتب الألماني برتولت برشت بأنه أبرز كُتاب المسرح في القرن العشرين، وكذلك أحد أهم المنظرين لهذا الفن، بإسهامه في «المسرح الملحمي» ومفهومه عن «الإغراب». هكذا جرى التركيز على إنجازه المسرحي على حساب عمله الشعري. وكذلك بسبب طغيان تأثيره المسرحي، وارتباطه بالمواقف السياسية، يتراجع الاهتمام بقصائد الحب التي كتبها.
يختار لنا المترجم القدير أحمد حسان تسع قصائد من بريشت، تلقي الضوء على جانب آخر من أدب الكاتب المسرحي والشاعر الكبير.
أحمد حسان أحد أبرز المترجمين العرب، وله الفضل في تقديم العديد من الأعمال الفكرية إلى اللغة العربية، إذ قدم لنا أعمال مفكرين من أمثال فالتر بنيامين وجان فرانسوا ليوتار وسلافوي جيجيك.
أ.ز
---
أغنيات حب من بريشت
برتولت بريشت
اختيار وترجمة أحمد حسان
بالتعاون مع صفحة راية التمرد
***
شراء البرتقال
في الضباب الذي يكسو شارع ساوثهامبتون
تظهر فجأة عربةُ فاكهة، وامرأة عجوز
تحت مصباح، تشير إلى كيس ورق.
وقفت مندهشًا ومبهوتًا كمن يرى
ما كان يبحث عنه، أمام عينيه.
برتقال! برتقال كاﻷيام الخوالي!
نفختُ يديّ من البرد
وفتّشتُ جيوبي عن عملةٍ ﻷشتري.
لكن بينما أُمسكُ الدريهمات في يدي
وأنظر إلى الثمن ﻷراه مكتوبًا
بفحمٍ قذر على ورقة صحف
وجدتُني أُصفِّر بعذوبة، وعلى الفور
أصبحَت الحقيقةُ المُرَّة بالغةَ الوضوح:
إنكِ لست هنا معي في هذه البلدة.
***
أسئلة
اكتبي لي ماذا ترتدين. هل تشعرين بالدفء؟
اكتبي لي كيف تنامين. هل فراشك وثير؟
اكتبي لي كيف تبدين. ألم تتغيري؟
اكتبي لي ماذا تفتقدين. أهو ذراعي؟
خبّريني: هل يدعونك وشأنك؟
أيمكن أن تصمدي؟ ماذا ستكون خطوتهم التالية؟
ماذا تفعلين؟ أهو ما ينبغي عمله؟
فيمَ تفكرين؟ أتفكرين فيَّ؟
الأسئلة هي كل ما يمكنني منحك، وأقبل
كل ما يجيء من إجابات، فلا حيلة لي.
فلا يمكنني أن أمدَّ لكِ يدًا، لو كنتِِ مُتعبة؛
أو أطعمك، لو كنتِ جائعة. وهكذا يبدو
وكأنني لستُ في هذا العالم، غير موجود.
يبدو وكأنني قد نسيتك.
***
للقراءة صباحًا ومساءً
ذلك، الذي أُحبّه
قال لي
إنه يحتاجني.
ومن ثم
أحافظُ على نفسي
وأراقبُ موضع أقدامي.
أخشى كلَّ قطرة مطر
يمكنها أن تصرَعَني.
***
السوناتا التاسعة عشرة
ذات يوم حين لم تصلني أخبار
استدعيتُ الحرّاس، الفيلة الستة
إلى قوس النصر فوقفوا
في الحادية عشرة في طريق واجرام.
نظروا إليّ، متمايلين بخفة. فقلت:
«حين سلّمتُها لرعايتكم
أمرتكم بأن يُداس سبعُ مراتٍ ليُسحَق
كل من يضايقها».
وقفوا صامتين حتى رفع أضخمهم
خرطومه ليدوّي باحتقار
وأشار بتمهل خبيث إلى المذنب: أنا.
هجم القطيع مُرعدًا. ففررت -
فررت، وهم يتعقبونني، إلى مكتب البريد ﻷكتب خطابًا
متلفتًا خلال النافذة في وجلٍ.
***
سوناتا رقم 19
مطلبي الوحيد: أن تبقي معي.
أود أن أسمعك، ولتتذمرّي كما شئتِ
لو كنتِ صماء فأنا أحتاجُ ما قد تقولين
أو كنتِ بكماء فأنا أحتاج ما قد ترين.
لو كنتِ عمياء فأنا أريدك أمام ناظري،
فأنت الحارس الواقف بجانبي:
لم نكد نقطع نصف الطريق في مسيرتنا الطويلة
فتذّكري أن الليل ما زال يحوطنا.
قولكِ «دعني ألعقُ جراحي» ليس عذرًا اﻵن.
وقولكِ «في أي مكان» (ليس هنا) ليس دفاعًا
ستجدين الراحة، لكن لن أطلق سراحك اﻵن.
تعلمين أن من إليه احتياجٌ لا يمكنه الذهاب
وأنا أحتاجك بشدّة
إنني أتحدث عني بينما الحديث عنّا يعني أكثر.
***
ARDENS SED VIRENS
رائعٌ، ما ﻻ تحوّله النارُ الجميلة
إلى رمادٍ بارد!
أختاه، أنتِ أثيرةٌ لديّ
متأججةُ دون أن تأكلكِ النار.
رأيتُ كثيرين وهم يُهِدّئون بمكرٍ
متهورين يسقطون دون تعلُّم.
أختاه، أنت من يمكن أن أُبقي بجانبي
متأججةً دون أن تأكلكِ النار.
لم تجدي أبدًا حصانًا
تمتطينه بعيدًا عن أرض المعركة
لذا راقبتُكِ تقاتلين بحذر
متأججةُ دون أن تأكلكِ النار.
***
في تفضيل تنورة طويلة واسعة
تنورتك الريفية الضافية هي ما أختارُ
حيث أؤكّد بخبثٍ على طولها:
فرفعُها عن جسدكِ إلى آخرها
كاشفةً الفخذين والمؤخرة، يمنحني رجفة.
وحين تضعين ساقيكِ فوق أريكتنا
دعيها تنزلقُ إلى أعلى، وهكذا، مخبوءًا في ظلّها
خلال المناقشات العميقة يلفها دخانُ التبغ،
يلمّح جسدُكِ بأن ليلتنا لم تنته بعد.
أكثرُ من مجرد إحساسٍ وضيع شهواني
هو ما يجعلني أرغبُ في تنورةٍ بهذا الاتساع:
فحركاتكِ تُعيد إلى الذهن كولتشيز
يوم أن خَطَت ميديا تجاه البحر.
إﻻّ أن تلك ليست اﻷسبابُ التي أدافع بها
عن هذه التنورة. فاﻷسباب الوضيعة تكفيني.
***
أغنيات حب
I
بعد أن تركتُكَ
ذلك اليوم لا يغيب عني أبدًا
وبدأتُ أرى ثانيةً
كان كل ما رأيته بهيجًا.
منذ قضينا ساعةَ الغروب تلك
أنت تعلمُ الساعة التي أعني
صارت ساقاي أكثرَ خفة
وفمي أكثر هدوءًا.
ومنذ أحسستُ بذلك، صارت الشجرةُ والخميلة
والمرجُ أشدَّ خضرة
حتى الماء حين أغتسل
ينسابُ فوقي أكثرَ برودة.
II أغنية امرأة عاشقة
حين تُبهجُني
أُفكر أحيانًا
أنني لو مُتُّ اﻵن
فسوف أكون سعيدةً
حتى نهاية حياتي.
وعندما تشيخُ
وتفكرُ فيّ
فسوف أبدو كما أنا اﻵن
ويكونُ لك حبيبة
ما زالت شابة.
III
سبع ورداتٍ في الخميلة
ستٌ للريح
وتبقى هناك واحدة، وهكذا
لن أجدَ سوى واحدة.
سأناديك سبع مرات
ابق بعيدًا ست مرات
لكن في السابعة، عدني
أن تأتي سريعًا.
IV
محبوبي أعطاني غصنًا
أوراقه بنّية.
العام كاد ينتهي
حبنا بدأ لتوّه.
***
أرسلي إليَّ ورقة شجر
أرسلي إليَّ ورقة شجر، تكون من خميلةٍ
تبعد عن منزلكِ
مسيرةَ نصف ساعةٍ على اﻷقل، حينئذ
سيكون عليكِ أن تذهبي فتصيري قوية
أشكرُك أنا على الورقة اللطيفة.