منذ ستين عامًا، منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل في الأدب للكاتب الروسي بوريس باسترناك، ولكن خلال أقل من أسبوع، وتحت ضغط الحكومة السوفييتية، رفض باسترناك الجائزة. نُشرت تفاصيل هذه القصة، التي تتجاوز في حبكتها وتغيراتها أي رواية جاسوسية عن الحرب الباردة، على الصفحات الأولى المتعاقبة بجريدة النيويورك تايمز.
بدأ قرع الطبول في 21 نوفمبر عام 1957، حين أشارت الجريدة إلى أن رواية باسترناك الملحمية «دكتور جيفاجو» موشكة على الوصول إلى المكتبات الإيطالية رغم اعتراضات الحكومة السوفييتية. كان السوفييت، الذين سمحوا لباسترناك بالتقرب من الناشرين الأجانب في تعبير قصير الأمد عن الكرم، قد ندموا على قرارهم وحاولوا إجبار الناشر الإيطالي للكتاب على إعادة النسخة من أجل «مراجعتها». اعترض الناشرون.
في حوار امتد لخمس ساعات جرى في 17 ديسمبر عام 1957، اعترف باسترناك أن الرواية أصابت السوفييت بالإحباط، وذكر للتايمز أنه «لا يشعر بالسرور تجاه العاصفة التي أحاطت بالكتاب». قال إنه كان قد قَبِل عرضًا من مستشار شيوعي شاب ليساعده في «تحسينها» قبل أن تُنشر بالخارج.
ظهرت «دكتور جيفاجو» على غلاف ملحق مراجعات الكتب بجريدة نيويورك تايمز في 7 سبتمبر عام 1958. كتب الناقد الأدبي مارك سلونيم: «من السهل أن نتنبأ أن كتاب باسترناك، أحد أبرز الكتب في زماننا، والذي يعتبر حدثًا أدبيًا من الطراز الرفيع، سيحظى بمستقبل مبهر... وكان قد حظى أيضًا بماض غير عادي».
في أكتوبر عام 1958، ذكرت التايمز أنه من المرجح أن يحصل باسترناك على جائزة نوبل في الأدب لهذا العام.
وفي اليوم التالي مباشرة، منحت الأكاديمية السويدية بالفعل الجائزة لباسترناك.
في اليوم نفسه، أجل المسؤولون السوفييت نشر مقابلة التايمز مع باسترناك، والتي أجراها مراسلها بموسكو ماكس فرانكل.
أدت مقابلة فرانكل، التي نُشرت في 25 أكتوبر 1958، إلى إغراق باسترناك في مشكلات أكبر، لأن الكاتب عبَّر عن بهجته لحصوله على نوبل. أشارت التايمز إلى أنها استقبلت مسودة مقابلة فرانكل «في شكل ينبئ عن مظاهر حذف أجراها الرقباء».
في اليوم التالي مباشرة أدانت الصحف السوفييتية باسترناك، ودَعَت كتابه بأنه «عمل حقير فنيًا وخبيث ومفعم بكراهية الاشتراكية». هاجمه مقال تحريري بالبرافدا ودعاه بـ «جلف مؤذ» و«شتام» و«لطخة تافهة على بلدنا الاشتراكي». وفي المقال نفسه، اعتُبرت الرواية «عمل تهكمي خبيث»، «وعمل رخيص رجعي منحط القيمة»، و«افتراء» سياسي.
في 28 أكتوبر عام 1958، طُرد باسترناك من اتحاد الكتاب السوفييتي.
في اليوم التالي، بعث باسترناك –راضخًا للضغط السوفييتي- ببرقية إلى الأكاديمية السويدية أعلمهم فيها أنه لن يتمكن من قبول الجائزة. كتب قائلًا: «من منطلق المعنى المضاف لهذا التكريم في المجتمع الذي أنتمي إليه، لا بد أن أمتنع عن قبول الجائزة غير المستحقة التي حصلت عليها... لا تتلقوا رفضي الطوعي بسوء نية».
لم تُحَسِّن البرقية كثيرًا من موقفه في الاتحاد السوفييتي؛ جرى حثه حتى على مغادرة البلد. أشارت التايمز إلى أن باسترناك «أخبر مراسلين غربيين اثنين أن كل الرسائل التي بعثها إلى ستوكهولم بعثها بحرية. ورفض مناقشة موقفه وطلب من المراسلين ألا يزوراه أو يتصلا به مرة أخرى».
في 31 أكتوبر عام 1958، دعا البعض في الاتحاد السوفييتي إلى نفي «باسترناك الخائن» من الاتحاد السوفييتي.
ناشد باسترناك خروتشوف علنًا في 1 نوفمبر، متوسلًا إليه أن يُبقي على مواطَنته. كتب: «مغادرة بلدي الأم يساوي الموت بالنسبة لي».
في اليوم التالي، أعلنت زوجة باسترناك، زينايدا، أنه مريض، وقالت بحسم إن زوجها لن يتمكن من الحديث إلى الصحفيين. «لا بد أن يستريح»، هكذا قالت من شرفة مزلهما خارج موسكو. «سوف أطهو له بقدر إمكاني، وسوف نعيش بهدوء شديد هنا لمدة عام أو أكثر – بدون زيارات أو مقابلات».
تحت تأثير الضغط الهائل، أصدر باسترناك اعتذارًا علنيًا في البرافدا في 6 نوفمبر عام 1958، قال فيه إنه «أخطأ» حين قبل الجائزة في البداية.
بعد يومين، نشر اتحاد الكتاب السوفييتي «أمثولة عن ثعبان زحف خارجًا من (مياه الروث) ليهدد العقاب الفخور المحلق عاليًا»، هكذا نقلت التايمز. من الواضح أن المقصود بالثعبان أن يرمز لبوريس باسترناك، رغم عدم ذكر اسم الفائز بجائزة نوبل.
تم الاحتفاء باسم باسترناك في حفل نوبل الذي عُقد في وقت لاحق في ذلك الأسبوع. ذكرت الجريدة: «حفظت جائزة باسترناك التي تبلغ قيمتها 41,420 دولارًا، وميداليته الذهبية الثقيلة، ولفافة الجائزة الجلدية لدينا في حالة حظى في أحد الأيام بفرصة قبولها».
في 14 فبراير عام 1959، نشرت الجريدة قصيدة يائسة كتبها باسترناك مؤخرًا تبدأ بجملة: «أنا ضائع كوحش محبوس».
ولكن بعد خمسة أيام، قال لأحد الصحفيين إنه لن يتراجع عن كلمة واحدة في «دكتور جيفاجو».
توفى باسترناك في 30 مايو عام 1960. «اشتملت حياة بوريس باسترناك على الذرى والأعماق، الأمجاد والمآسي، المباهج والمراثي التي شكلت روسيا في القرن العشرين».
ألقت حشود المعجبين بتحية الوداع لباسترناك في 2 يونيو «وطأوا أغصان شجر الصنوبر المقطوع لتوه من أجل مشاهدة وجه الشاعر الذي رحل عن عمر 70 عامًا. أحاطت كفنه كميات هائلة من الأزهار، معظمها اقتطف من الريف، ومن ضمنها زهور الليلك في موسمه تفتحه، والتيوليب وزهور الكرز، والزهور البرية». بعد ذلك، حظى بتكفين شاعري «تحت ثلاث أشجار صنوبر طويلة في التل المزهر في الريف الروسي المحبب له».