اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.
المجتمع المفتوح وأعداؤه لكارل بوبر (1945)
مقال لروبرت مكروم
نُشر بموقع الجارديان، سبتمبر 2016
ترجمة: عمر سلامة
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
«إذا كان لحضارتنا أن تبقى، فعلينا أن نهجر عادة الإذعان لعظماء الرجال». هكذا يبدأ كارل بوبر دفاعه المتقد عن الحرية والعقل.
سيصبح المجتمع المفتوح وأعداؤه، الذي تشكَّل في الثلاثينيات واكتمل في الأربعينيات، نصًا مفصليًا في الستينيات، كما سيؤثر مؤلفه بعمق وأحيانًا بشكل مثير على جيل جديد من طلبة الجامعات. من ثم، أصبح كتابٌ ألهمه الغزو النازي للنمسا عام 1938، لكنه كُتب فعليًا في عُزلة جزيرة نيوزيلندا الجنوبية وسكينتها، صرخة استنفار باسم الديمقراطية الليبرالية الغربية لتجديد التقليد الأوروبي في ما بعد الحرب.
أمام رد الفعل العنيف الذي لا مفر منه أصبح بوبر، الذي كان مفكرًا لاجئًا عازمًا على معالجة «الصعوبات التي تواجه حضارتنا»، محك اختبار للرأى التقدمي. استوعب نقده الضاري لأفلاطون وهيجل وماركس على أنه هجوم على الفكر الشمولي كما أصبح الاتجاه السائد على نطاق واسع حتى عندما كان يدينه المثقفون المعارضون والخصوم. في نفس الآن، كان المجتمع المفتوح وأعداؤه بجزئيه (سحر أفلاطون، أوج مد النبوءة: هيجل وماركس وتبعاتهما) نتاج رحلة الفيلسوف الفكرية.
اعتنق بوبر الشاب الماركسية - قرارٌ كان سيؤثر جديًا على العديد من أفكاره اللاحقة - كما أنه حتى اعتبر نفسه شيوعيًا لبضعة شهور من عام 1919، واجدًا ملاذه إلى حد كبير في التيارات السائدة لصراع الطبقات والمبادئ الرئيسية للاقتصاد والتاريخ الماركسي. على الرغم من خيبة أمله السريعة إلا أن مغازلته للأيديولوجيا الماركسية شابًا كانت ستجعله ينأى بنفسه عن أولئك الذين يؤمنون بالثورات العنيفة. في نهاية المطاف، أدرك خلال خيبة أمل العشرينيات الطويلة أن التضحية بحياة الإنسان يجب أن تكون آخر ما يُلجأ إليه وأن الفكر الراديكالي وتطبيقه يجب أن يكون مسلكهما الحذر الفائق والتعقل.
لم يكن الفزع فقط هو ما أصاب بوبر إزاء فشل الأحزاب الديمقراطية في منع الفاشية من الهيمنة على السياسة في النمسا في العشرينيات والثلاثينيات، لكنه عانى بشكل مباشر من تبعات هذا الفشل التاريخي. فرض ضم النازيين للنمسا – بواسطة أنشلوس عام 1938- المنفى الدائم على الفيلسوف الشاب. من تلك اللحظة فصاعدًا، كرس بوبر نفسه مدى الحياة لمهاجمة الفكر الشمولي بشكل عام والماركسية بشكل خاص.
تضمنت اهتماماته الفلسفية أيضًا العلم ولا يقين المعرفة. كانت بعض أفكاره ستلعب في النهاية دورًا مهمًا في التطور الفكري لتوماس كون (رقم 21 في هذه السلسلة). شكك بوبر في فكرة وجود قوانين صارمة للتاريخ الإنساني معتقدًا أن التاريخ يتأثر بنمو المعرفة وهذا دائمًا مما لا يمكن التنبؤ به.
صاغ بوبر لأول مرة جدالاته حول العلم في كتابه «منطق الاكتشاف العلمي» (1934) دافعًا بطرحه أن العلم يتقدم بتخمينات جريئة متنافسة تخضع للاختبار الصارم. قال ذات مرة إنه «بخلاف الموسيقى والفن، فإن العلم هو أعظم وأجمل إنجازات الروح البشرية وأوسعها تنويرًا».
لكنه أصبح ذائع الصيت كنصير لفكرة المجتمع المفتوح ومدافع عن الأنظمة الديمقراطية. وُصف المجتمع المفتوح وأعداؤه – والذي نُشر أخيرًا عام 1945 – بأنه واحد من أكثر الكتب تأثيرًا في القرن العشرين. ومثلما أشاع الكتاب فكرة المجتمع المفتوح، فقد دفع بطرح أن الشيوعية والفاشية مترابطان فلسفيًا، ووضح الصلات المتوارية بين السياسة والثقافة، يكتب بوبر: «إن الرأى القائل إن برنامج أفلاطون السياسي شمولي بحت، والاعتراضات على هذا الرأى، قادانا إلى تقصي الجزء الذي لعبته هذه الأفكار أخلاقية كالعدالة والحكمة والحقيقة والجمال». في رده، أعلن برتراند راسل وهو نصير له شأنه أن عمل بوبر «دفاع مستميت وعميق عن الديمقراطية، في الوقت المناسب، عمل مثير للاهتمام ورائع الصياغة».
بإدراك لاحق، فإن وضوح كتابة بوبر، وقوتها البلاغية، متفرد ومثير للإعجاب كما أن قراءتها على نفس القدر من الحدة: «من يستطيع أن يشكك أن أفلاطون يكشف هنا عن إعجابه الحقيقي بعقيدة المجتمع المفتوح، وعن كفاحه الشاق لكى يهتدي إلى رشده ويدرك أين انتهى به المطاف – بالتحديد، في معسكر أعدائه».
يقر بوبر في مقدمته للطبعة الثانية بالدرجة التي تأثر إليها عمله بالحرب العالمية الثانية: «حقيقة أن معظم الكتاب كُتب أثناء سنوات الخطر عندما كانت نتيجة الحرب لا تزال غامضة قد تساعد في تفسير لم صارت بعض انتقادات الكتاب أكثر انفعالًا وحدةً في النبرة مما تمنيت. لكنه لم يكن الوقت المناسب للكلمات المنمقة».
زعم بوبر أنه لم يقم بأية إشارة صريحة إلى الحرب. مع ذلك، فكتابه «كان محاولة لفهم تلك الأحداث وخلفيتها، وبعض القضايا التي كان من المرجح أن تنشأ بعد الانتصار في الحرب».
مع روح الحرب الباردة، والمناخ السياسي الذي هيمن على أول قراءة للمجتمع المفتوح وأعدائه، لم يتردد بوبر في إعلان أن الماركسية «إشكالية كبرى» ومجرد «أحد الأخطاء العديدة التي اقترفناها في النضال الدائم والمحفوف بالخطر من أجل بناء عالم أفضل وأكثر حرية». تبعًا لذلك، لم يتردد بوبر في تحديد «ظلام وضع العالم الراهن»، زاعمًا أن هذا مبرره «لمعاملته القاسية لماركس».
من منظور عام 2016، فإن كثيرًا من جدليات بوبر تبدو بعيدة كبعد لاهوت العصور الوسطى. دائمًا ما ستكون للاشتراطية وروح العصر دور هام في خلق هذه الكلاسيكيات غير الخيالية. إن استنتاج بوبر يبدو في الحال جذريًا ومحافظًا إلى حد عميق:
«إن أعظم اضطراباتنا تنبع من أمر رائع وسليم بقدر ما هو خطير – من لهفتنا لتحسين مقدرات إخوتنا البشر. هذه الاضطرابات هي النتائج المصاحبة لما هى ربما أعظم الثورات الأخلاقية والروحية في التاريخ، وهي حركة بدأت قبل ثلاثة قرون. إنها توق اللامعدود من المجهولين لتحرير أنفسهم وعقولهم من وصاية السلطة والتعصب. إنها محاولتهم لإنشاء مجتمع مفتوح... إنها رفضهم للتراجع والتخلي عن مسؤولية حكم العالم كاملةً لسلطة بشرية أو فوق بشرية... هذه الثورة خلقت قوى تدمير مروع ولكن ربما ما زال من الممكن هزيمتها».
فقرة مميزة
«هذا الكتاب يصور بعض الصعوبات التي تواجه حضارتنا – وهي حضارة ربما بالإمكان وصفها بأنها تهدف إلى الإنسانية والعقلانية، إلى المساواة والحرية؛ حضارة ما زالت في طفولتها، كما كانت، وتستمر في النمو بالرغم من حقيقة أنه تمت خيانتها من قبل الكثير جدًا من قادة فكر بني البشر».