اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

تاريخ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها لإدوارد جيبون (1776-1788)

مقال لروبرت مكروم

نُشر في الجارديان 4 سبتمبر 2017

ترجمة: محمد صفوت

الترجمة خاصة بـ Boring books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


إدوارد جيبون، عن الجارديان

استهل جيبون درة تاج المؤلفات الإنجليزية في التأريخ استهلالًا أسطوري الطابع:

«كان هذا في روما، في الخامس عشر من أكتوبر لعام 1764 بينما كنت جالسًا في سهوم يحيط بي طلل الكابيتول، والأخوة من حولي حفاة ينشدون صلاة الغروب بمعبد (جوبيتر)، خطر ببالي للمرة الأولى أن أشرع بكتابة اضمحلال المدينة وسقوطها».

يرجح لدينا أن إدوارد جيبون قد اصطنع تلك الذكرى ليوطئ بها لكتابه، غير أن جهوده ودراسته المبذولة في كتابه «الاضمحلال والسقوط» تشبهان ما ترك الرومان من آثار في روعتها ومهابتها وعمقها؛ شاهدًا أصيلًا يؤرخ للدولة الرومانية منذ بلغت الذرى وحتى هَوَتْ بيزنطة.

يقع عمل جيبون في ست مجلدات (نشرت بين عامي 1776 و1788) ليغطي ثلاث مراحل أولاها تبدأ بعصر طروادة وحتى خراب الإمبراطورية الغربية عام 395م، وثانيتها مع حكم جوستينيان في المشرق وحتى الإمبراطورية الجرمانية الثانية وعلى رأسها شارلمان في الإمبراطورية الغربية، وثالثتهما تعود فيها الحياة للشق الغربي من الإمبراطورية في بدايتها وتنتهي بسقوط القسطنطينية عام 1453. في أثناء هذه الرحلة يشير الكاتب إلى الروابط العميقة الخفية التي تربط ذاك العالم القديم بعالمه الحديث نسبيًا ويوضح الصلات بين عصر التنوير وعهد روما.

قد يُنظَر إلى جيبون بصفته مؤرخًا هاويًا، إذ كان جل جهده منصرفًا لإنماء ثروة عائلته وأداء الخدمة المسلحة ضمن قوات الميليشيا، ومع ذلك لا تخفى براعته وعبقريته المتجلية في علمه بكتابات سترابو وسالوست وسينكا وأترابهم من الرومان والإحالة لها وذلك في القرن الثامن عشر أيام أوغسطان حينٍ لم تشع إلا الإشارة لفيرجل وأوفيد وبلوتارخ.

إلى جانب معرفة جيبون برز منه أسلوب اجتذب أمثال ونستون تشرشل وإفلن ووه. وصف الكاتب أسلوبه قائلًا: «تمرست على إطالة الكتابة في فقرة، تطول ما شاءت أن تطول وأقرأ ما أكتبه لتقيمه أذناي وتحفظه ذاكرتي وذلك بدون أن ينزع القلم عن الورقة حتى أفرغ مما بدأته».

يعد «الاضمحلال والسقوط» بناءً مهيبًا عامرًا على المستويين الأدبي والنقدي لما ورد به من آراء رصينة وباعثة على الدهشة والتفكر في آن، ولا يخلو هذا البناء المهيب من آراء كامنة في أركانه على نصيب وافر من الظرف والحس الساخر تؤوب بها إلى موضعها من العقل ملاحظات ذَيَّل بها الكاتب صفحاته، وهذا المثال نورده من الفصل السابع حين يكتب عن جُرْديان فيقول:

«عرف عنه اتخاذه لاثنين وعشرين محظية بخلاف مكتبة زاخرة باثنين وستين ألف مجلد شهدوا على تنوع اهتماماته وميوله، وبالنظر لنتاجه الأدبي يتبين أن الشاهد الثاني شأنه شأن الأول؛ موجود لغرض إصابة الفائدة لا تباهيًا وادعاءً».

ويُذيِّل الصفحة المقتبس منها بخاتمة طريفة هي: «في شبابه، أنجبت كل محظية ثلاثة من الأبناء أو أربعة وكذلك كان نتاجه الأدبي وفيرًا قيمًا».

أبدى الكاتب رغبة في التنصل من أي توابع يجلبها عليه عمله الضخم إذ قال «قد يتسع التاريخ لتسجيل ما دون جرائم البشر وحماقاتهم وما نزلت بهم من مصائب وكوارث»، كما مال أيضًا لتدوين عصارة فكره في ثنايا سرديته ويُذكر منها: «إن كان الحديث يوسع الفهم ويغنيه فما العبقرية إلا صنيعة العزلة»، ويُذكر أيضًا أن كَتَب «لا تخلو ضريبة من نصيب منتزع من الزراعة». أحيانًا يحتد نقد جيبون ويقسو حتى ليشبه نقد «تاسيتس» لصيرورة التاريخ: «الفساد داء لا تسلم منه الليبرالية الدستورية».

تحضر الخلفية الثقافية لجيبون بصفته عالمًا موسومًا بوسم عصر العقلانية حين ينسب ما آلت إليه الإمبراطورية الرومانية من انفراط نظامها إلى تعاليم المسيحية.

«ليس للدين غاية أكبر من نيل السعادة في حياة أخروية ولذا لا نجد غضاضة أو تسترًا على حقيقة أن دخول المسيحية، أو اتخاذها مطية، كان له دور عظيم في إضعاف الإمبراطورية الرومانية وسقوطها لاحقًا، فما فتئ خطابها اللاهوتي يعظ الناس ويحرضهم على التزام الصبر واعتناق الخوف حتى خملت المثل الحية للمجتمع وانطفأت جذوة الروح العسكرية المقاتلة وثوت تحت الرماد؛ فتم وقف مخصصات ضخمة من المال العام والخاص على القيام بتكاليف الإحسان ورعاية المنقطعين للعبادة وبذلك تحولت رواتب المقاتلين للإنفاق على جحافل من شباب الجنسين لا يقوون إلا على الدعوة للتبتل والعفاف، ثم أشعل الإيمان والتعصب وغرابة الأطوار إلى جانب غرائز دنيوية أخرى من أحقاد مُزجت بالطموح نار الفتنة والنزاعات الدينية التي انغمست فيها الكنيسة؛ حتى الدولة وإدارتها انصرفا إلى شؤون الطوائف الدينية وخلافاتها الدموية المتشبعة بالأحقاد وصارت ملتقيات الأساقفة محل اهتمام الأباطرة عوضًا عن معسكرات الجند حتى صار العالم الروماني تحت نير صنفٍ مستحدث من الطغيان وباتت الفئات المضطهدة عدوًا خفيًا يتآمر على بلاده».

مع ذلك، يقر الكاتب أيضًا في بعض المواضع المتفرقة، وعلى كراهة منه، بمنافع الدين فيقول:

«وجد خمول الرهبان المقدس في ذاك العصر الخانع المخنث بيئة طيعة؛ ولولا أن باركت تلك الخرافة مظاهر الإذعان هذه لاتخذت مظاهر أخرى كالتغرير برعاع الرومان من خسيسي النفوس للتنازل عن مقومات الجمهورية والمساومة على مبادئها.

يَيَسُر اتباع الوصايا الدينية نظرًا لتساهلها مع ميول أتباعها الفطرية مع إسباغها بهالة من القدسية، وبوضع هذا في الاعتبار يمكن ملاحظة المنفعة التي جلبتها المسيحية وتتبعها، بتأثيرها على طباع البرابرة المتحولين إلى المسيحية في الشمال، فلو أقررنا أن تحول قسطنطين للمسيحية قد عجَّل بسقوط روما، فقد حق علينا الاعتراف بدور دينه إذ انتصر في تخفيف حدة السقوط وترقيق طباع الغزاة».

بعد إعادة الكتابة وتنقيح المادة عدة مرات ومرور الكاتب بأوقات كاد يتخلى فيها عن كد سبع سنوات طوال قام أخيرًا بطرح المجلد الأول من «الاضمحلال والسقوط» للنشر في السابع عشر من فبراير لعام 1776 وقبل أقل من ستة أشهر على إصدار الولايات المتحدة إعلان الاستقلال في ذروة تلك الثورة الناشبة في المستعمرات الأمريكية وقد لا يكون هذا التزامن من قبيل الصدفة.

بعد مرور شهرين على نشر المجلد الأول من مؤلفه الهائل، نُقَل عنه تباهيه أمام زوجة أبيه بصدى كتابه فقال: «قد لاقي عملي قبولًا حفيًا ورواجًا بين رجال الأدب والقادة في أنحاء العالم كما أقبلت على اقتنائه النبيلات».

فهو إذن، وبعبارة أخرى، عمل جامع قد لقى اهتمامًا عالميًا وترك أثرًا خالدًا قد نال به مكانة لا تُنازع بين ذخائرنا الأدبية.

ختم جيبون تحفته بفقرة وداعية تكاد تفوق نظيرتها الافتتاحية بلاغةً وأثرًا:

«في يوم ــ أو ليلة، إن رمنا الدقة ــ السابع والعشرين من يونيو لعام 1787 بين الحادية عشر والثانية عشر، انتهيت من كتابة الأسطر الأخيرة من آخر صفحة... حينها تنفست الصعداء وتملكني الابتهاج لاسترداد حريتي أخيرًا ووضع أساس محتمل لسمعة وصيت واسعين ولكن سرعان ما خفتت كبريائي وأخذت بزمامي كآبة ووجد على مفارقة صديق كريم طالت بي صحبته إلى غير رجعة وإني مهما استطال عمري فشأني شأن المؤرخين كافة؛ حياتهم قصيرة هشة».

من تعبيراته البارزة:

«هانت منعة الحدود هوانًا عظيمة - وقد كانت من قبل منطلق القوات لا محلًا للتحصن والاختباء – وتُركَت المقاطعات الغنية مكشوفة لأطماع البرابرة وطموحاتهم حتى لم يطل بهم الوقت ليدركوا ضعف الإمبراطورية الرومانية».