منتصف لعبة صمويل بيكيت
مقال لدنيس دونوهيو*
* دينيس دونوهيو يدرّس الأدب الإنجليزى والأيرلندى والأمريكى بجامعة نيويورك
ت: أمير زكى
نوفمبر 2011
المقال مكتوب بمناسبة صدور المجلد الثانى من الخطابات المختارة لصمويل بيكيت
***
صمويل باركلى بيكيت ولد فى فوكسروك بجنوب دبلن، فى ربيع 1906، هناك خلاف عن التاريخ الدقيق لميلاده. مات فى باريس فى 22 ديسمبر 1989. فى فترة 60 عاما كتب أكثر من 15000 خطابا. محررو "خطابات صمويل بيكيت" يخططون لنشر اختياراتهم لـ2500 خطابا كاملا، والإشارة إلى 5000 آخرين فى شروحاتهم الضخمة، فى أربعة مجلدات. الخطابات المكتوبة بالفرنسية منشور أصلها ثم يترجم ذلك للإنجليزية. المجلد الأول الذى يضم الخطابات من 1929 حتى 1940، نشر فى 2009.
العنوان الفرعى للمجموعة الجديدة "المجلد الثانى: 1941-1956" مضلل قليلا. فلسبب وجيه لا توجد خطابات فى الفترة ما بين 10 يونيو 1940 و17 يناير 1945. فى 12 يونيو 1940 وقبل يومين من احتلال الجيش الألمانى لباريس، بيكيت وشريكته – التى أصبحت زوجته بعد عدة سنوات - سوزان ديكوفو دومينيل تركا المدينة متجهين أولا إلى منطقة حكومة فيشى ثم بعد ذلك إلى بلدية أركاكون، حيث أجبرا على العيش لمدة ثلاثة أشهر. فى منتصف سبتمبر خاطرا بالعودة لشقتهما بباريس. فى 1 سبتمبر 1941، شارك بيكيت فى المقاومة، وهى خلية عمليات تنفيذية بريطانية خاصة. كانت وظيفته هى استقبال وكتابة الرسائل عن حركة القوات الألمانية، هذه الرسائل التى كان تبعث بعد ذلك للبريطانيين. فى سبتمبر 1942 وعندما تم الإرشاد عن الخلية، هرب بيكيت وسوزان إلى فرنسا غير المحتلة، وبعد أسابيع ممتلئة بالتقلبات، استقرا فى بلدية روزيلان دابت بمحافظة فوكلوز، وظلا هناك لعامين حتى تحرير باريس فى 25 أغسطس 1944. ليس من المفترض أن نسأل عن خطابات مرسلة أو متلقاة آنذاك. فى 12 أكتوبر عام 1944، عاد بيكيت لشقته. أول خطاب فى المجلد الثانى يعود تاريخه لـ17 يناير 1945.
سنوات باريس التى تلت الحرب كانت شديدة الصعوبة. بيكيت وسوزان كانا فقراء تماما. المال الذى تركه له أبوه تضاءل إلى حد كبير فى الوقت الذى وصلا فيه إلى فرنسا. كيف كتب أى شئ فهذا أمر عجيب. كتب روايته "وات" أثناء الحرب، ولكن جعلها تنشر فهذه كانت مأساة، فقد أخذت أعواما. فى مارس 1949 وللهرب من ضوضاء باريس، استأجر بيكيت وسوزان غرفة بلا مقابل تقريبا فى أوسى سير مرن، وهى قرية تبعد حوالى 35 ميلا من باريس. هناك كان بإمكانه أن يكتب، وفى أوقات الظهبرة كان يزرع الأشجار بالحديقة، ويسير طويلا مع سوزان. فى 1 يونيو عام 1949 كتب لصديقه جورج دوثويت:
"فى إحدى الأمسيات كنا عائدين إلى أوسى، وعند شروق الشمس فجأة وجدنا أنفسنا محاطين بحشرات غريبة، ذبابات مايو على ما أعتقد. كن جميعا يتجهن نفس الاتجاه، يسرن بالضبط على الطريق، بنفس سرعتنا. لم يكن هذا انتحاء شمسيا لأننا كنا نتجه للجنوب. فى النهاية اكتشفت أنهن كلهن متجهات نحو نهر المارن، لتأكلهن الأسماك، بعد أن يمارسن الحب على سطح الماء”.
حياته بدأت تتيسر قليلا فى عام 1950: توفت أمه وتركت له بعض النقود. والأهم من هذا أن رعاه جيرومى ليندون من دار نشر إيديسيون مينوى، الذى لم ينشر كتبه فحسب، ولكن كان يتصرف كوكيله المخلص. نشرت الروايات على فترات قصيرة: "مولوى: (1951)، "مالون يموت" (1951)، "اللا مسمى" (1953). و"وات" ظهرت متأخرة فى عام 1953. ولكن الحدث الحاسم كان هو العرض الأول لـ "فى انتظار جودو" فى مسرح دى بابيلون بباريس فى 5 يناير عام 1953. بعد هذا: طوفان من الشهرة، بعض الثروة وفى 1969 جائزة نوبل.
عقليا، فأكثر الدوافع أهمية فى حياة بيكيت أثناء سنوات المجلد الثانى كانت صداقته بدوثويت. أول خطاب له يعود لتاريخ 27 مايو 1948، ولكنهما كانا صديقين من قبل ذلك. المراسلات بينهما كانت مستمرة حتى 2 مارس 1954 حيث قلت إلى أن انتهت. دوثويت كان محرر جريدة "ترانزيشن" التى أعيد إحياءها، وهى مجلة باللغة الإنجليزية تعنى بالثقافة الفرنسية بشكل أساسى. هو كلف بيكيت بترجمة مقالات من الفرنسية للإنجليزية ولمراجعة الترجمات التى يقوم بها الآخرون. دوثويت كان ناقدا، وخبيرا بالرسم الفرنسى والأمريكى المعاصر بالإضافة إلى الفنين البيزنطى والشرقى. بيكيت لم يكن يعتبر نفسه ناقدا، وإن كان قد نشر كتابا قصيرا عن بروست وعدد من المقالات والعروض التى تحوى رؤاه. ولكن من آن لآخر يجد نفسه منجذبا للحديث عن نظرية الفن وعن إشكالية اللغة، مثلما حدث عن طريق صديقه أكسل كون، الذى انتزع ردا من بيكيت عن اللغة فى 9 يوليو 1937:
"طالما أننا لا نستطيع أن نرفضها مرة واحدة، فعلى الأقل نحن لا نريد شيئا غير مكتمل ليزيد من سوء سمعتها. علينا أن نحفر فيها حفرة بعد الأخرى حتى يبدأ ما هو رابض بالأسفل، سواء كان هذا شىء أو لا شىء، بالتسرب – أنا لا أستطيع تخيل هدف أسمى بالنسبة للكاتب فى هذه الأيام".
وعن طريق المترجم هانز نومان الذى تلقى خطابا من بيكيت فى 17 فبراير عام 1954 يتضمن الجملة الشهيرة: "فى كل الأحوال سأعطيك إشارة واحدة: الحاجة لتكون غير مستعد".
فى الشهور الأولى من عام 1949، بيكيت ودوثويت كانا مأخوذين جدا برسوم صديقهما بارم فان فيلد، وهو فنان ألمانى كان يقيم فى باريس. بيكيت كان معجبا برسومه بشكل كبير، ودوثويت كان أقل من ذلك. المشكلة كانت هنا: كيف تكتب عنها، وتعلى من شأنها. بيكيت عادة كان ينظر إلى إحدى الرسوم لمدة ساعة، بإعجاب كبير، ولكنه لا يجد شيئا ليقوله عنها ربما باستثناء: "رائع.. رائع". النظر لرسوم فان فيلد، على الأقل لمرة دفعه للوصول لنغم البهجة. كتب لدوثويت فى 10 سبتمبر 1951:
"أنا أفكر دوما فى الرسوم الأخيرة، معجزات من العجز المهتاج، إلى جانب جمال وروعة كحطام سفينة من الضوء الفسفورى... مع طرق عظيمة متسعة حيث كل شىء يندفع ويعود مرة أخرى، إلى جانب الهدوء المحطم للعمق الحقيقى".
ولكن بيكيت اكتشف سريعا بأنه عندما يكتب عن فان فيلد فهو يكتب عن نفسه أو يحاول أن يضع فان فيلد فى مكانه. ككاتب طليعى، بيكيت كان ينتقد الولاء البرجوازى؛ الحديث عن التعبير والتواصل، الماضى، الاستعارات القديمة، الأحداث القديمة، "هزلية العطاء والتلقى". فى "الحوارات الثلاثة" التى كتبها مع دوثويت فى عام 1949، تحدث عن أفضلية "التعبير عن أنه لا شىء يمكن التعبير عنه، لا شىء بواسطته يمكن التعبير، لا شىء من خلاله يمكن التعبير، لا توجد قدرة على التعبير، ولا رغبة فى التعبير، كل هذا مع جبرية التعبير". برام فان فيلد كان الرسام الأول، وفقا لبيكيت، "التى تتجرد رسومه، قل تتخلص، من الحدث بكل صوره وأشكاله، المثالية مثلها مثل المادية، والأول الذى لم تتقيد يديه بيقينية أن التعبير هو فعل مستحيل".
الخطابات إلى دوثويت – وخاصة خطاب 9 مارس 1949 – تظهر أن بيكيت كان يثقل دماغه بهذه المتناقضات، ويتمنى أن يتخلص منها، وبالتأكيد فقد كان ممتنا لدوثويت الذى ساعده فى الحفاظ على نفسه. فهما ناقشا أسئلة أخرى: ماذا ينبغى أن يتم مع "جودو" الآن، وكيفية إنتاجه على المسرح. بيكيت كتب المسرحية بسرعة، بين أكتوبر 1948 ويناير 1949ـ ودوثويت ساعده بهذه التفصيلة:
"أنا استوعبت حقا ما قلته عن ملاحظات العرض. هذا سيساعدنى، هى ساعدتنى حقا. أنا أنظر إليها إلى أنها تحمل خبثا كبيرا، كما فى الظل الساخر لشجرة لا تستطيع حتى أن تشنق نفسك عليها".
وفى موضع آخر: "فى "جودو" هناك السماء التى هى مجرد سماء بالاسم، هناك الشجرة التى تجعلك تتساءل إن كانت كذلك، فهى صغيرة وذابلة. أنا أود أنا أراها مقامة بأى طريقة، مجردة بشكل محبط كما الطبيعة، بالنسبة لاستراجون وفلاديمير، مكان للمعاناة، مسيل للعرق والنتانة، حيث ينمو نبات اللفت أحيانا، أو ينفتح الخندق".
هناك أكثر من ذلك، ولكن فى النهاية – مارس 1954 – طلب بيكيت من دوثويت أن يكف عن الشرح والتوضيح. فكما قال: هو ليس مؤهلا لهذه الوظيفة. وقال عن رسوم جاك ييتس: "حتى بالنسبة لهذ الرجل الكبير الذى أحبه وأحترمه، أنا لا أستطيع على الإطلاق أن أتهيأ لنسيان نفسى قليلا".
الميزة الأكثر حميمية فى هذه الخطابات، وليس فقط الخطابات الموجهة لدوثويت، هى ثقة بيكيت فى خبرته الذاتية. كلما قاد نفسه نحو التأكيد التنظيرى، كلما سلم بصحة حقائقه هو. هو لم يسمح أن يتم تهديد التجربة عن طريق النظرية. هو رفض امتيازات الماضى، ولكن ليس ماضيه هو. بعض الحوادث الصغيرة من سنوات طفولته بفوكسروك يتم استعادتها عدة مراته فى نثرياته ومسرحياته. "لو كانت كلها مجرد خيال؟". هكذا يتمنى بيكيت فى رواية "يُرى بشكل سىء، يقال بشكل سىء". ولكنها لم تكن خيالا مجردا، ولا هو كان يتمناها كذلك حقا. هو أراد أن يحرر عقله من أجل أن يتحاور مع نفسه، ولكنه لم يترك أبدا أحداث حياته التى تقطع جمله. المسرحية الإذاعية "كل الساقطين" هى ذكريات مجردة: "أنا أعرف خط السكة الحديد جيدا، وطريق شارع هاركورت الذى اعتدت أن آخذه يوميا ما بين ستيلورجان ودبلن".
حتى اللغة القديمة الفقيرة المنحطة: كلما أراد بيكيت نقدها كلما أحبها بلا سبب. كما كتب فى "من عمل مهجور":
"هناك، هناك، هناك مكان فى قلبى من أجل كل هذا الذى انتهى، من أجل الوجود الذى انتهى، أنا أحب الكلمة، الكلمات هى محبوباتى الوحيدات، ليس الكثير منها".
وفى "نحو الأسوأ":
"الكلمات أيا كانت. أى مكان للأسوأ!كيف أن الأقرب للحقيقة أنها أحيانا ما ترن! كم تحتاج إلى التفاهة! أن تقول إن الليل شاب للأسف وتكون شجاعا".
هناك أشياء كثيرة قادمة: الخطابات التى كتبها بينما كان ينهى "لعبة النهاية"، ويكتب "الأيام السعيدة"، و"شريط كراب الأخير"، و"كيف هذا"، والعمل الصغير والجميل "يُرى بشكل سىء، يقال بشكل سىء" ولكن هذا سيكون فى المجلدين النثريين القادمين".