الكلب

قصة ج. م. كوتسي

ترجمة: أحمد طارق عبد الحميد

نُشرت في النيويوركر - 4 ديسمبر 2017

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

***

عن النيويوركر

تقول اللافتة الفرنسية على البوابة «كلب شرس»، والكلب بلا شك شرس méchant. في كل مرة تمر به يلقي بنفسه على البوابة، عاويًا برغبة في الوصول إليها وتمزيقها إربًا. كلب ضخم، كلب خطير، أحد أنواع كلاب الرعي الألمانية أو الروت فايلر (فما أقل ما تعرفه عن فصائل الكلاب). تشعر بالكراهية، في أصفى حالاتها، تشع عليها من عينيه الصفراوين.

فيما بعد، عندما يصبح منزل الكلب الشرس خلفها، تتأمل تلك الكراهية. تعلم أنها غير شخصية: فأيًّا من يقترب من البوابة، أيًّا من يمشي أو يدور ناحيتها، سيكون عرضة لها. لكن إلى أي مدى يمكن الشعور بالكراهية؟ أهي تشبه تيارًا كهربائيًا، يعمل عند رصد الهدف وينقطع عند انسحابه لركن بعيد؟ هل تستمر تشنجات الكراهية في نَفْض الكلب عندما يخلو بنفسه مجددًا، أم يخمد الحنق به فجأة، وهل يرتدُّ بعد ذلك إلى حالة من الطمأنينة؟

تمرُّ بالمنزل مرتين يوميًا مستقلة دراجتها، مرة في طريقها للمستشفى حيث تعمل، ومرة أخرى بعد انتهاء ورديتها. لأن انتقالاتها منتظمة تمامًا، يتوقع الكلب مرورها: حتى قبل أن تظهر أمامه يكون هو عند البوابة نابحًا بلهفة. ولأن المنزل على منحدر، فإن اقترابها كل صباح، وهي تصعد التل، يكون بطيئًا؛ أما في المساء فيمكنها، لحسن الحظ، أن تمرَّ بسرعة.

ربما لا تعرف شيئًا عن فصائل الكلاب، لكن لديها فكرة جيدة عن الرضا الذي يكسبه الكلب من مواجهاته معها. إنه الرضا من السيطرة عليها، الرضا من أن يكون مرهوبًا.

الكلب ذكر، أظافره غير مقلَّمة كما يمكنها أن ترى. أكان يعلم أنها أنثى، أكان البشر في عينيه يتميزون إلى أحد الجنسين، بالتوازي مع جنسيَّ الكلاب، أكان إذن يشعر بنوعين من الرضا - رضا حيوان يسيطر على حيوان آخر، ورضا ذكر يسيطر على أنثى؟ لم يكن لديها أي فكرة.

كيف يعرف الكلب أنها تخشاه، بغض النظر عن قناع اللامبالاة الذي ترتديه؟ الإجابة: لأنها تُصدر رائحة الخوف، ولأنها عاجزة عن إخفائها. في كل مرة ينقضُّ الكلب ناحيتها، تسري رعدة نازلة عبر ظهرها وتصدر من جلدها رائحة، رائحة يلتقطها الكلب فورًا. إنها تُوصله لنشوة من الغضب، نفخة الخوف هذه القادمة من الكائن المار على الجانب الآخر من البوابة.

تخشاه، وهو يعلم ذلك. مرتين يوميًا يمكنه التطلُّع للحدث: مرور ذلك الكائن الذي يخشاه، الذي يعجز عن تقنيع خوفه، الذي يُصدر رائحة خوف كما تُصدر الكلبة رائحة جنس .

لقد قَرَأَت أوغسطين، حيث يقول إن أوضح دليل على أننا كائنات ساقطة يكمن في حقيقة عجزنا عن التحكم بحركات أجسادنا، وبالتحديد، عجز المرء عن التحكم بحركات عضوه الذكري، فهذا العضو يتصرف كأنما تحكمه إرادة مستقلة، بل لعله يتصرف كأنما تحكمه إرادة خارجية.

تُفكِّر بأوغسطين وهي تقترب من سفح التل الذي يرقد المنزل عنده، المنزل ذو الكلب. هل ستتمكن من التحكم بنفسها هذه المرة؟ هل لديها القوة اللازمة لحماية نفسها من إصدار رائحة الخوف المهينة؟ وفي كل مرة تسمع الهرير عميقًا في حلقوم الكلب، ذلك الذي قد يكون على السواء هرير غضب أو شَبَق، وفي كل مرة تشعر بارتطام جسده على البوابة، تصلها إجابتها: ليس اليوم.

***

الكلب الشرس محبوس في حديقة لا ينمو بها شيء غير الحشائش. تنزل ذات يوم عن دراجتها، وتركنها على جدار المنزل، تطرق الباب، تنتظر وتنتظر، بينما على بعد أمتار قليلة منها يتراجع الكلب مبتعدًا ثم يُلقي بنفسه على السياج. إنها الثامنة صباحًا، وهو ليس موعد من عادة الناس فيه طرق أبواب الآخرين. ومع ذلك، ينفرج الباب في النهاية قليلًا. وترى في الضوء الكابي وجهًا، هو وجه امرأة عجوز لها ملامح هزيلة وشعر رمادي هش. تقول بفرنسيتها المقبولة: «صباح الخير، هل لي أن أحدثك لحظة؟»

يُفتح الباب أوسع. تخطو بالداخل، في غرفة متناثرة الأثاث حيث يجلس في تلك اللحظة رجل كهل، مرتديًا  سترة صوف، أمام طاولة تحمل  إناء. تحييه؛ يومئ لها لكنه لا يقف.

تقول: «آسفة لإزعاجكما في هذا الوقت المبكر من النهار، أمرُّ بدراجتي بجوار منزلكما مرتين يوميًا، وفي كل مرة -لا شك أنكما سمعتما- يكون كلبكما في الانتظار ليحييني».

هناك صمت.

«يحدث هذا منذ أشهر. أتساءل ألم يحن الوقت لتغيير هذا الوضع. أيمكنكما الترتيب لتقديمي إلى كلبكما، حتى يألفني، حتى يعرف أنني لست عدوًّا، وأنني لا أريد شرًّا؟»

تبادل الاثنان النظرات. الجو في الغرفة ساكن، كما لو أن النوافذ لم تُفتح من سنين.

تقول المرأة: «إنه كلب مخلص، أون شيان دو جارد»، أي كلب حراسة.

فهمت من ذلك أنه لن يكون هناك تقديم، لن تكون هناك ألفة بالـ «شيان دو جارد»، وهذا لأن هذه المرأة يناسبها أن تعاملها كعدو ستستمر في عدائه.

تقول: «في كل مرة أمر بالمنزل، تصيب كلبكما حالة هياج، لا أشك أنه يرى من واجبه أن يكرهني، لكني مصدومة من كراهيته لي، مصدومة ومرعوبة. في كل مرة أمر بمنزلكما أخوض تجربة مُهينة. من المُهين أن أُروَّع هكذا. أن أعجز عن مقاومة ذلك. أن أعجز عن إيقاف الخوف».

يحدق الاثنان فيها بجمود.

تقول: «هذا طريق عمومي، لديَّ حق في ألا أُرَوَّع وألَّا أُهان في الطريق العمومي. في مستطاعكما تصحيح هذا».

تقول المرأة: «هذا شارعنا لم نقم بدعوتكِ هنا. يمكنكِ اتخاذ شارع آخر».

يتحدث الرجل للمرة الأولى: «مَن أنتِ؟ بأي حق تأتين وتخبريننا كيف نُقوِّم أنفسنا؟»

توشك أن تقدم ردها، لكنه غير مهتم، فيقول «اذهبي، اذهبي، اذهبي، اذهبي!»

سوار كُمِّ السترة الصوف التي يرتديها ينحلُّ؛ وبينما يلوِّح بيده لإخراجها يجرُّه داخل إناء القهوة. تفكر في تنبيهه لذلك، لكنها لا تفعل. ودون كلمة تنسحب؛ ويُغلَق الباب وراءها.

يُلقي الكلب نفسه على السياج. يقول: «يومًا ما، سينهار هذا السياج. يومًا ما، سأمزقكِ إربًا».

بقدر ما تستطيع من الهدوء، مع أنها ترتعد، مع أنها تشعر بموجات الخوف تنبض خارجة من جسدها للهواء، تُواجه الكلب وتتحدث، مستخدمةً كلمات الإنسان. تقول: «يلعنك، يجحمك!». ثم تستقل دراجتها وتنطلق إلى قمة التل.