و. ب. ييتس [i] يكتب عن أوسكار وايلد
مقدمة مضافة إلى المجلد الثالث من الأعمال الكاملة لأوسكار وايلد (نيويورك 1923)
ترجمة: أمير زكي
عن كتاب "التراث النقدي المتعلق بوايلد Oscar Wilde - The Critical Heritage"
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
***
عندما كنت ألقي المحاضرات في بوسطن قبل الحرب[ii]بقليل أخبرني لاجيء عربي أن أعمال أوسكار وايلد ترجمت إلى العربية وأن مجموعة "الأمير السعيد وقصص أخرى" كانت الأكثر شعبية: قال: "إنها أدبنا الخاص". وكنت قد سمعت أن مقال "روح الإنسان تحت الاشتراكية" هو الأكثر قراءة في حزب شباب الصين. وبعد ذلك بفترة بدأت أفكر في المصير الغريب لكتب بعينها. ذهني عاد إلى نهاية الثمانينيات عندما كنت قد وصلت لتوي إلى لندن ومعي مسودة كتابي الشعري الأول، وعندما لم يكن وايلد قد نشر سوى أشعاره ومجموعة "الأمير السعيد". أذكر أن المقالات النقدية كانت عموما معادية جدا لأعماله، فحركة وايلد الاستطيقية كانت الحدث المعاصر وصحفيي لندن كانوا لا يزالوا غاضبين من بنطلوناته، أوضاعه أثناء التصوير، وربما من مقولاته الحادة عنهم. في حين أن رجال الأدب لم يجدوا في نثره سوى محاكاة لوالتر بيتر[iii]وفي شعره سوى محاكاة لسوينبرن[iv]وروزيتي[v]. لم يوجد أبدا أي شخص يكتب بحرص إلى أصغر جمهور ممكن بأكثر أسلوب مصطنع ممكن، وهذا الجمهور لم يضم أحدا سوى بضعة نساء مهتمات بالموضة يدعون ضيوفا ليستمعوا إلى حديثه، بالإضافة إلى رسامين أو ثلاثة استمروا على تقليد روزيتي. وأثناء تفكيري كأني سمعته يقول بطريقة كلامه البطيئة الدقيقة المنغّمة: "لديّ جمهور كبير في سمرقند". ربما لا يتكلمون العربية في سمرقند، ولكن أي اسم يختاره هو يختاره لوقعه ولإيحائه الرومانسي. شعبيته في الصين كانت ستؤثر فيه أكثر، وأنا بإمكاني الاستماع لصوته وهو يتكلم عن الطلاء الأنيق والجاف. في الحقيقة فعندما أذكره بلذة فأنا أذكر دوما المتحدث، سواء عندما سمعته في منزل و. ه. هينلي[vi]أو في منزله أو في جزء من مسرحياته، حيث يوجد قدر كبير من البديهة المستمدة مبدئيا أو مستمدة كلها من أحاديث له. هو بالتأكيد كان أعظم متحدث في عصره. قال لي: "نحن الأيرلنديون شاعريون جدا لنكون شعراء، نحن أمة من الفاشلين العظام، ولكنننا أعظم متحدثين من عهد اليونانيين". هو كان يتحدث كما يفعل دوما المتحدثون الأيرلنديون الجيدون – وإن كان بأسلوب وتنغيم مستمد من بيتر وفلوبير – وأفضل من أفضل متحدث إنجليزي بإمكانه التكلم. هو لم يكن لديه اهتمام عملي، ليس لديه قضية ليدافع عنها، لا معلومات ليقدمها، ولا حتى كونه مهرجا مثليا كانت قضيته العملية جدا مصدر لذتنا. خلف كلماته كانت هناك قوى عقلية كبيرة، ولكن عقليته وهبت نفسها للتأمل المجرد. أعرف اثنين أو ثلاثة من هؤلاء الرجال في أيرلندا اليوم، وواحد منهم هو رجل مجهول جاء إلى عربتي في قطار ويكلو من عامين أو ثلاثة: بدأ بالقول "عربة الدرجة الأولى، تذكرة الدرجة الثالثة، افعل ذلك وفقا للترتيب". وبعد ذلك تحدث عن صديق له قُتل في الحرب، وصرخ قائلا: "لم هناك العديد من الموتى المفترض أن يكونوا أحياء، والعديد من الأحياء المفترض أن يكونوا موتى؟". لعشرين دقيقة من الحديث الثمل تحدث مثل شكسبير كما يقول عنه الناس، ولم يتحول للحظة من الموضوعات الأساسية وغير القابلة للحل؛ وقال لي قصة كان من الممكن أن يقولها وايلد ببهجة. ثم فكرت بعد ذلك في طبيب وقس تحدثت إليهما في أماكن عديدة، ولكن بشكل خاص في ساحل كونيمارا البعيد، يوما بعد الآخر يصبح ذهنهما عارفا بشعر العالم أكثر مني، ومكتظان بالخيال الذي يداعب الموضوعات الأساسية والتي لا يمكن حلها.
كلما ابتعد وايلد في كتابته عن طريقته في الحديث، عن الارتجال، عن التعاطف مع بعض الجمهور الخاص، كلما كان أقل أصالة، وأقل إنجازا. أعتقد أن "روح الإنسان تحت الاشتراكية" عميقة إلى حد ما لأن العديد من الاقتباسات متخذة من حواراته؛ و"الأمير السعيد وقصص أخرى" ساحرة ومسلية لأنه وضعها في شكل قصص، (أطفاله كانوا لا يزالوا صغارا في هذا الوقت) و "بيت الرمان" كثيرة الزخارف وأقل تسلية لأنه كتبها في شكل قصص. ولأنه عندما يكتب، باستثناء عندما يكتب للممثلين، لا يفكر في جمهور خاص. في "الأمير السعيد" أو"العملاق الأناني" أو "الصاروخ العجيب"، لا يوجد شيء لا يخدم القصة، في الحقيقة لا شيء غير القصة، ولكن في "عيد ميلاد الإنفانتا" بالكاد هناك قصة تستحق ان تُحكى. "الصياد وروحه" من نفس الكتاب فيها قصة جيدة بما يكفي لجعلي متأكدا أنه حكاها العديد من المرات؛ ولكي أستمتع بها أحاول أن أتخيلها كأن عليه أثناء حكايتها أن يحرص بنصف وعي على أن لا يسبب الضجر - بتكرار التأثير أو الوصف غير الضروري - لطفل أو لصحبة من الرسامين أو الكتاب الشباب. فقط عندما أتخيلها هكذا أكتشف أن فكرة عدم رضا الصياد الشاب بعشيقته الحورية، عندما يستمع إلى وصف فتاة ترقص بقدمين عاريتين، كان هذا ذكيا وساحرا ومختلفا. الصياد الشاب قاوم العديد من الإغواءات، ولكن هذا كان قبل أن يرى بوضوح أنها لا تملك قدمين. في القصة المكتوبة هذه التفصيلة تتوه في الزخارف التي ندعها تمضي بدون أن نلاحظها مع القراءة الأولى، ولكنها ذروة القصة. ولكي أستمتع بها فعليّ أن أستمع للصوت مرة أخرى، وأن أنصت مرة أخرى للمتحدث الذي لا يقارن.
وصلت لندن بعد زيارة طويلة لأيرلندا قبل شهور قليلة من مأساته العظيمة، سألت أحد أصدقاءه "ماذا يفعل وايلد؟" أجاب صديقه: "أوه، هو مكتئب جدا، يستيقظ في الثانية بعد الظهر، لأنه يحاول أن ينام كمية من الحياة بقدر إمكانه، وألف قصة يدّعي أنها أفضل قصة في العالم ويقول إنه يكررها لنفسه بعد كل وجبة وقبل أن يتجه للسرير كل ليلة". وقال لي القصة وأعتقد أنني أثق في ذاكرتي لأستعيد كل كلمة: "المسيح جاء بمظهر أبيض إلى المدينة الأرجوانية وأثناء سيره في الشوارع سمع أصوات فوق رأسه، فنظر ووجد شابا مستلق مخمورا على عتبة النافذة. قال المسيح "لم تهدر روحك في الخمر؟" فيجيب الشاب: "سيدي، لقد كنت أبرص وأنت شفيتني، ماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك؟" وبعد ذلك وجد شابا يتبع داعرة بعينين لامعتين، فقال له "لم تضيع روحك في الزنا؟" فأجاب الشاب "سيدي، لقد كنت أعمى وأنت شفيتني، ماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك؟" وفي منتصف المدينة وجد رجلا عجوزا جالسا على الأرض يبكي فقال له "لم تبكي؟" فأجاب العجوز "سيدي لقد كنت ميتا وأنت أقمتني إلى الحياة، ماذا يمكنني أن أفعل سوى البكاء؟". أنا أيضا أعتقد أنها واحدة من أفضل القصص في العالم، على الرغم من أنه لا يعجبني، ولم تعجبني عندما سمعت للمرة الأولى أوصاف "مظهر أبيض"، "المدينة الأرجوانية"، "عينين لامعتين". القصة فيها تأكيد وبساطة النحت العظيم، إنها تضيف شيئا جديدا لمخيلة العالم، وتواجه فجأة الذهن – كما يفعل كل الفن العظيم – بالأساسي وغير الممكن حله. إنها تضع في أقل كلمات ممكنة كآبة تأتي إلى المرء في لحظة الانتصار، اللحظة الفريدة عندما يسأل المرء بدون الخوف من تحيزات خفية أو حسد أو إحباط أو غيرة عن جدوى الحياة، عندما قابلت وايلد لأول مرة كان رجلا فقيرا تقريبا. قال "الناس يظنون أنني ناجح". أو جملة من هذا القبيل: "ولكن في هذه اللحظة أنا لا أستطيع ان أحصل على بضع شلنات". والآن لديه ثلاث مسرحيات تعرض في وقت واحد مما جعله يحصل على ما قيل أنه عشرة آلاف جنيه في السنة: "سيدى، لقد كنت ميتا وأنت أقمتني إلى الحياة، ماذا يمكننى أن أفعل سوى أن أبكي؟"
مؤخرا وجدت في نهاية واحد من مجلداته، في قسم بعنوان "أشعار في نثريات"، هذه القصة ممتدة إلى 15 أو 16 جملة، وذلك بأوصاف مثل: "أعمدة المرمر الجميلة"، "قاعة العقيق وقاعة اليشب"، "مشاعل الأرز"، "الرجل المزخرف وجهه وملابسه، وقدميه مزدانة باللؤلؤ". تأثير اللوحات على الأدب الإنجليزي بدأ مع شعر كيتس ووصل الآن إلى الذروة، لأن كل إنجلترا المتعلمة تأثرت بويسلر[vii]وبرن جونز[viii]وروزيتي؛ ووايلد – كشخص محلي مثلي – وجد في هذا التأثير شيئا غامضا، شيئا مثيرا، كجماعة دينية، كجماعة تعد باختلاف مستحيل. هذا بالتأكيد لأنه لم يرتبط بذلك بالميلاد وبالصلة المبكرة ليحصل على جمل وصفات من أجلهم، وليس لأنهم جزءا طبيعيا من نشأته، وتحدث بطريقتهم للآخرين كأنه واجبه ليمرر بعض كلمات السر والإشارات والرموز. عندما جاء وقت سقوطه كان قد اكتشف أسلوبه الطبيعي في "أهمية أن تكون جادا"، والتزم بهذا الاكتشاف بسبب تقنية المسرح الصعبة، وكان قد كاد أن يقدم لكوميديا المسرح الإنجليزي ما سيكون لجيلنا ما كانت كوميديات جولدسميث وشيريدان لجيلهم. كان لديه فعليا منافس وحيد – السيد برنارد شو – الذي قادته ثقافته ليس لوالتر بيتر ولكن لكارل ماركس، والذي – رغم حياته الممتدة وخياله الواسع – لم يتخلص أبدا وتماما من الحوادث والقابل للحل.