"دبلنيون".. مدينتنا، كتابنا
مقال لجون بوين
ترجمة: أمير زكي
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
قراءات، نزهات، حفلات، معارض: دبلن ستنغمس في شهر أبريل في كتاب "دبلنيون"، فمجموعة جيمس جويس القصصية الكلاسيكية سيتم الاحتفاء بها عن طريق مبادرة "دبلن: مدينة واحدة.. كتاب واحد"[i]وكجزء من الحدث، تم نشر نسخة جديدة من الكتاب عن طريق دار نشر أوبريان مع هذه المقدمة لجون بوين[ii]:
"التقيت لأول مرة بـ"دبلنيون" عندما كنت في الخامسة عشر من عمري. أختي الكبيرة كانت راحلة لتلتحق بجامعة إنجليزية وأردت أن أقدم لها هدية قبل أن تغادر. تجولت في إحدى المكتبات القريبة من مدرستي في ترينور أثناء فسحة الغداء – لم تكن نوعية المدرسة ولا المكان مُمَثّلة في أي من قصص جويس – ثم لفت الكتاب نظري.
أمامي الكتاب وأنا أكتب الآن، نفس النسخة، ممزقة قليلا وأطرافها صفراء، تاريخ "1986" مُدوّن على صفحة العناوين. الرسم الذي على الغلاف يظهر امرأة شابة تنظر بعصبية وريشة ضخمة تطير أمامها، ليست لديّ أي فكرة ما هو المفترض أن يدل عليه الرسم ولم الريشة أكبر من رأس المرأة. في الخلفية يظهر مكتب البريد العام، مع نهر الليفي الذي يمتد أمامه مباشرة، هذا الذي لا يقدم معنى واضحا أيضا. ولكن في الخامسة عشر فأسئلة مثل هذه لم تكن لتزعج عقلي، وأنا ببساطة اخترت الكتاب لأنني اعتقدت أن سيُذكّر أختي بالوطن.
هذا جعلني أفكر: كم مهاجر على مر السنوات وضع نسخة من "دبلنيون" في حقيبته قبل أن يتوجه إلى المطار، أو رصيف الميناء أو محطة العبّارات، أثناء الذهاب إلى إنجلترا أو أمريكا أو أستراليا، ليكون الكتاب تذكرة بالمدينة التي ولد فيها، المدينة التي وجد نفسه منفيا عنها بسبب الاضطرار الاقتصادي؟ وكم واحد يفعل ذلك الآن؟
قبل أن أعطي الكتاب لأختي ألقيت نظرة عليه، متسائلا إن كان عليّ أن أقرأه بنفسي وإن كنت شبه مقتنع بأنه سيضجرني كثيرا. كان لدينا نسخة من "يوليسيس" في مكتبة المدرسة، وكنت قد قضيت ظهيرة أحد الأيام من عدة أشهر أتجول بصعوبة مع باك موليجان وستيفن ديدالوس والطالب هينز، وهم يسيرون على الشاطيء أمام برج مارتيللو بسانديكوف، ورغم أنني لم أتعد القسم الافتتاحي إلا أن منظر الـ700 صفحة آثار الرعب بداخلي. (مرة أخرى، لقد كنت في الخامسة عشر؛ وكنت قد تبادلت مؤخرا هولدن كولفيلد[iii]بأدريان مول[iv]، هكذا كان التحول الكبير، متجاهلا كل الناس في مدينتي حيث لا يوجد مكان قريب مثير بنفس طريقة تجول "الحارس في حقل الشوفان" في شوارع مانهاتن، وهو يلتقط الفتيات ويقول كلمات قبيحة.)
ولكني أعترف أن "دبلنيون" بدت أسهل. من جهة كانت أقصر، وكانت أقل رعبا. اخترت قصة بشكل عشوائي، "المتأنقان"، قصة شابان فظّان، كورلي ولينيهان، الذين لديهما موقف كريه من النساء، فهما يغويانهم، يخدعانهم، وفي النهاية يختلسان عملة من الذهب. اعتقدت أنهما يبدوان رفيقان عظيمان معا. باستثناء أنني لم أكن متأكدا جدا مما حدث في النهاية، لذلك قرأتها مرة أخرى، هذه المرة أقل ارتياحا مع كراهيتهما الواضحة للنساء وطبيعتيهما القاسيتين.
ورغم ذلك فقد تركت القصة تأثيرا عليّ، وتساءلت إن كان هناك شيئا مميزا في جويس عموما. فعدت من البداية من "الأخوات"، وشرعت في القراءة.
لم أقابل "دبلنيون" مرة أخرى حتى الجامعة. كنت أدرس اللغة الإنجليزية في جامعة ترينيتي، وخلافا لترينور، فالشوارع حول ميدان "كوليدج جرين" التي تتجه للشمال عبر النهر حتى ميدان بارنل، وبعد حديقة الذكرى إلى شارع دورسيت، كل هذه الأشياء جعلت عالم جويس حيا أمامي، في تلك الشوارع التي كنت أسير فيها يوميا، الشوارع التي كانت مألوفة بالنسبة لي والتي شعرت باتصال ودي وشخصي بيني وبينها. اهتمامي بالأدب كان يتطور من ساعتها، وعرفت أنه شيء ذو معنى أن تكون دبلني، من أب من مركز المدينة – من شارع بوين وليس أقل – مع تراث أدبي ينافس أي مدينة في العالم.
قراءة "دبلنيون" جعلتني أدرك شيئا لم أكن أعرفه من قبل عن القصة القصيرة: هو أن المجموعة لا يجب أن تكون تجميعا عشوائيا لقصص متباينة موضوعة معا وداخل غلافين لتصنع كتابا، ولكن الكاتب من المفترض - بل عليه - أن يصنع روابط بين القصص، أن يصل بين الشخصيات، وأن تكون كل واحدة منها في مكانها بالنسبة لعمل أعظم، وأن يوضع كل شيء لسبب. كنت أنظر إليها كألبوم موسيقي موحد[v]. كنت في الجامعة ساعتها، وكان هذا هو إطار المفاهيم الذي أعمل بداخله.
بالعودة إليها الآن كشخص ناضج، يدهشني كم كان جويس اقتصاديا تجاه اللغة. ما زلنا نفكر في "يوليسيس" كعمل كبير ممتليء بالإحالات الكلاسيكية والإشارات التاريخية، ولكن معظم قصص "دبلنيون" تتكون فقط من آلاف قليلة من الكلمات، موضوعة بدقة داخل سياقها، ولكنها تظل في الذهن وتدعو لإعادة القراءة مرة بعد الأخرى لفهم الأفكار وكشف مقاصد الأبطال.
كثافة الأفكار في "النُزُل" مثلا تستحق دراسة أكاديمية أطول من القصة نفسها. كم من الوقت عرفت السيدة موني عن علاقة المستأجر بابنتها؟، ما الذي حدث لدوران وجعله يفكر بازدراء في وضع عشيقته في الحياة؟ ما هو في الحقيقة الذي ستفعله بولي مع تغيرات مزاجها؟
جويس يبدو أنه كان يتنبأ بالموضوعات التي ستكون بعد ما يقرب من قرن هي الموضوعات الشائعة في الأدب الأيرلندي. بقراءة "لقاء" يكون من الصعب أن تتخيل استكشاف حاذق عن إمكانية إيذاء الطفل أكثر مما يظهر في اللقاء بين الرجل الكبير والطفلين.
يصيح الفتى ماهوني عندما يقوم الرجل ويخطو بعيدا عنهم للحظات "أقول، أنظر إلى ما يفعل!". ما الذي يفعله؟ كل شيء ممكن وكل شيء مقترح، نحن لسنا بحاجة إلى شروح.
المجموعة تنقسم إلى ثلاثة أجزاء، تبحث في حياة الأطفال، متوسطي العمر، ثم الكبار. إنها تبدأ بطفل يتأمل في موت قس كان له تأثير في تكوينه، الموت ذلك الذي لم يفهمه تماما ببينما الحياة كلها تبدو مفتوحة أمامه الآن، المغامرة اللا نهائية. هناك الحب الأول في "عربي"، وهي القصة المؤثرة عن رغبة صبي يائسة في شراء الهدية المناسبة من سوق عربي ليعطيها للفتاة التي يحبها، وعدم قدرته المؤلمة على فعل ذلك. هناك الحب الضائع أيضا، في قصة لاحقة "إيفيلين". في منتصف المجموعة نصادف غضب متوسطي العمر: فقدان فارنجتون التدريجي لأعصابه في "النظراء"، وفقدانه لرجولته في مباراة مصارعة للذراعين؛ وحدة السيدة سينيكو في "قضية مؤلمة"؛ محاولة السيدة كارني لإعادة إحياء شبابها بشكل غير مباشر عن طريق ابنتها في "أم". وبعدها وأخيرا تصل المجموعة إلى نهايتها مع العمل البارز "الموتى".
بالنسبة للقراء الشباب الذين يقرأون جويس لأول مرة فبالتأكيد "دبلنيون" هو المكان الذي عليهم أن يبدوأ منه. "يوليسيس" و"يقظة فينيجان" هما كتابين عليك أن تعد نفسك لهما، ولكن "دبلنيون" و"صورة الفنان في شبابه" مختلفين تماما كما يمكن أن يرى جويس نفسه. هنا تجد تعامل نقي مع السرد في الـ15 قصة، السرد واضح حتى لو أخذ وقتا قليلا من القاريء ليكتشف المعنى الذي تحت السطح. اللغة تجعل المرء يبتسم وفي نفس الوقت يشعر قليلا بعدم الاستقرار، مثلما في حالة الرجل الكبير في "لقاء" عندما يلاحظ الصبي الذي يحتاج "ضرب سوط جيد وساخن"، وهناك كلمات لا تزال – حتى الآن – تحتاج مني أن أعود معها للقاموس، لأنني لا أدرك ماذا تعني – السيمونية simoniac، بمثابرة sedulously، جلمف bostoons ضمن كلمات أخرى – وإن كان من الممكن أن يتعلق هذا بي أكثر منه بالكاتب.
فكرة "مدينة واحدة.. كتاب واحد" التي تتم في العديد من المدن حول العالم، هي طريقة رائعة لإشراك المجتمع كله في القراءة، التحدث عن الكتب وتبادل الآراء. إنه أكبر نادي قراءة يمكنك أن تدخله ولا يوجد حدود للأماكن، في السنوات الماضية، الدبلنيون قرأوا الأدب الكلاسيكي لفلان أوربيان، جوناثان سويفت، برام ستوكر وأوسكار وايلد، هؤلاء الذين أظهرت كتبهم المدينة عن طريق السخرية والفانتازيا والرعب والميثولوجيا. نحن انفتحنا على روايات جديدة لسباستيان باري، وجوزيف أوكونور اللذان تحدثا عن مأساة جنود دبلن في الحرب العالمية الأولى، وعن ممثلة تستعيد ذكرياتها أثناء الثورة الثقافية التي حركها سينج وليدي جريجوري وييتس.
ولكن من الصعب أن نتصور كتاب مناسب لمبادرة "مدينة واحدة.. كتاب واحد 2012" أكثر من "دبلنيون" إنه يناسبنا كلنا، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار، الرجال والنساء. إنه ممتليء بالسخرية والحب، الألم والفقد – وأي من حيواتنا لا تحتوي على هذه العناصر؟ وقبل كل ذلك، فالكتاب يعكس الحب تجاه هذه الشوارع، وأصوات الناس الذين يعيشون فيها، عقلهم، أسلوب حياتهم، تفاؤلهم حتى عندما ينهار العالم من حولهم.
"دبلنيون" ربما تكون قد استلهمت من المدينة التي أعطت المجموعة اسمها، ولكن المدينة نفسها، المدينة الواحدة والكتاب الواحد، لا يزالان يُعرّفان بالقصص التي نكتبها نحن عنها.