بول أوستر يكتب عن صداقته بصمويل بيكيت

عن كتاب «بيكيت يتذكر، نتذكر بيكيت»، المنشور بمناسبة مئوية ميلاده.

ترجمة: كريم عبد الخالق

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

بول أوستر (1947- ) بعد إنهائه دراسته في جامعة كولومبيا، عاش في فرنسا مدة أربع سنوات. ومنذ عودته إلى أمريكا في 1974 نشر قصائد ومقالات وروايات وسيناريوهات وترجمات. أشهر أعماله «ثلاثية نيويورك». كتب مقالًا قصيرًا عن رواية بيكيت «ميرسيه وكاميه» Mercier and Camier وعادة ما يذكر بيكيت وأعماله في كتاباته. هذه مقابلة تليفونية لأوستر مع جيمس نولسون، وراجعها أوستر بعناية عام 2005.


انتقلتُ إلى باريس في فبراير 1971 بعد بضعة أسابيع من عيد ميلادي الرابع والعشرين. حينها كنت أكتب القصائد منذ فترة. بدأت رحلتي إلى مقابلة بيكيت من خلال جاك دوبن، شاعر كنت أترجم أعماله منذ المرحلة الجامعية بنيويورك. أصبحنا صديقين مقربين في باريس، ولأن جاك كان يعمل منسقًا فنيًا في جاليري ماغت قابلت من خلاله جان بول ريوبيل الرسام الفرنسي الكندي وأحد فناني الجاليري. وبسبب جان بول قابلت جوان ميتشل، رسامة أمريكية عاشت معه في منزل كان يومًا يخص مونيه في مدينة فيتوي. قبل ذلك بأعوام كانت جوان قد تزوجت من بارني روسيت الذي أنشأ دار نشر «جروف»، وكان يعرف بيكيت جيدًا. في إحدى الليالي كنا نتناقش حول أعمال بيكيت، وحين أدرك كيف كان بيكيت مهمًا بالنسبة لي، قال: «أتحب أن تقابله؟» أجبت «نعم.. طبعًا أحب». قال: «حسنًا، اكتب له خطابًا، وأخبره أني قلت لك ذلك».

عُدت إلى البيت وكتبت الخطاب وبعد ثلاثة أيام تلقيت ردًا من بيكيت يُعلِمني أن أقابله في مطعم كلوسير دي ليلاس الأسبوع القادم.

لا أستطيع أن أتذكر في أي عام جرى هذا. ربما في وقت مبكر كعام 1972 أو لاحق كعام 1974. لنكن في المنتصف ونقل عام 1973.

رأيته مرة واحدة فقط بعد ذلك في زيارة لاحقة لباريس في عام 1979 وعلى مدار الأعوام تبادلنا عشرات الرسائل والخطابات. من الصعب وصف علاقتنا بالصداقة، لكن مع الأخذ في الاعتبار إعجابي بأعماله (التي كنت أراها مشيَّدة على الإلحاد في شبابي) كانت مقابلاتنا ورسائلنا المتبادلة تزداد قيمة بالنسبة لي. بين حشد الذكريات ما زلت أستعيد مساهمته القيمة حين كنت أجمع كتابي «كتاب راندوم هاوس للشعر الفرنسي في القرن العشرين» (ولقد ساهم ببعض ترجماته لأبولينير، بريتون، إيلوار). حديثه العظيم في أحد مقاهي باريس حول حبه لفرنسا وكم هو محظوظ لأنه عاش حياته الناضجة فيها. خطاباته المشجعة حين أُرسل له شيئًا قد نشرته: كتب، ترجمات، مقالات حول أعماله. كانت هناك لحظات ساخرة أيضًا: ذكرى الليلة الوحيدة التي قضاها في نيويورك «لقد كان الجو حارًا للغاية، كنت مُعلقًّا بين السكك الحديدية». ولا أنسى جملته من لقائنا الأول، حين كان يلوِّح للنادل لكنه فشل في لفت انتباهه، نظر إليَّ وقال بلكنته الأيرلندية الناعمة: «لا توجد عينان يصعب عليك لفت نظرهما كعيني البارمان».

ما زالت ذكرى أخرى في مطعم كلوسير دي ليلاس عالقة في ذهني، وهي لا تُظهر فقط المزيد من طبيعة بيكيت الإنسان، بل تعرض المعضلة التي يقع فيها كل الكُتاب: الشك الداخلي، عدم القدرة على معرفة قيمة ما أبدعه الإنسان.

أثناء نقاشنا، قال لي إنه أنهى ترجمة «ميرسيه وكاميه»، روايته الفرنسية الأولى، والتي كُتبت في منتصف الأربعينيات. كنت قد قرأت الكتاب بالفرنسية وأعجبت به جدًا. قلت: «كتاب رائع». كنت مجرد صبي في النهاية، لم أستطع أن أكبح حماسي. لكن بيكيت هز رأسه وقال: «أوه، لا، لا، ليس جيدًا. في الحقيقة لقد اقتطعت ما يقارب 25% من الأصل. النسخة الإنجليزية ستكون أصغر قليلًا من الفرنسية». وأنا قلت: «لماذا تفعل شيئًا كهذا. إنه كتاب رائع. كان عليك ألا تخرج أي تفصيلة منه». مرة أخرى هز بيكيت رأسه: «لا، لا، ليس جيدًا، ليس جيدًا».

بعد ذلك، بدأنا نتحدث عن أشياء أخرى، وفجأة دون أي مقدمات، بعد خمس أو عشر دقائق مال ناحيتي وقال: «هل حقًا أعجبك الكتاب، ها؟ حقًا تعتقد أنه جيد؟»

هذا هو صمويل بيكيت، تذكر هذا. لم يكن حتى يدرك قيمة أعماله. لم يدرك أي كاتب أبدًا هذا. ولا حتى أفضلنا.

قلت له: «نعم، أعتقد أنه كتاب جيد».